وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ومكثت شهرا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨] إلى أن نزل فيّ (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) إلى آخر الآيات. وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل : هو البهتان. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة. قال المفسرون : هم عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى (مِنْكُمْ) أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرا. أما الخطاب في قوله (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء ، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلىاللهعليهوسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل : الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل : الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك ، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع امرأة من قريش ، والأشهر أنه عبد الله رأس النفاق. ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة. فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانا وقالت : أرجو له الجنة. فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلىاللهعليهوسلم رجوت له الجنة. وفي رواية أخرى قالت : وأي عذاب أشد من العمى.
ثم علم أدبا حسنا في مثل هذه الواقعة فقال (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَ) فصل بين «لو لا» التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف ما لا يتسع في غيره تنزيلا للظرف منزلة المظروف نفسه ، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم