فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله (بَشَرٌ) إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشرو بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله (تَنْتَشِرُونَ) إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فصله وجنسه ، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل ، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال : العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١].
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيا بتعاقب الأشخاص فقال (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ) ولا يلزم منه أن لا يكنّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، فقد يكون الشيء مختصا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن ، فلو لا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن. و (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في «النحل» ويشهد للتفسير الأول قوله (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) فإن الجنس إلى الجنس أسكن (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) عن الحسن هي الجماع (وَرَحْمَةً) هي الولد. وقال غيره : المودة حالة حاجة نفسه إليها ، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه ، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض ، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم : المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله ، والفرك من قبل الشيطان (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق والجعل (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فخلق الإنسان من الوالدين آية ، وجعل أحدهما ذكرا والآخر أنثى آية ، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية ، وجعل التوادد بين الزوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض ، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات ، وأما السماء والأرض فلا يجد بدا من أن يقول : إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها ، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض ، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه ، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس