وأما من الآفاق فخلق السموات والأرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان ، ومن عوارضه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق ، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر. وراعى في تعداد العرضيات لطيفة ، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال ، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب ، وبدأ في كل باب بما هو أعجب ، وإنما ختم الآية الأولى بقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض ، أو نقول : إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان ، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض. وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره ، ولهذه يشترك في معرفتها الناس جميعا فلهذا قال (لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة ، فالاشتراك في معرفتها أيضا ظاهر. ومن قرأ (لِلْعالِمِينَ) بكسر اللام فقد أحسن ، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره ، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى (يَسْمَعُونَ) هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه ، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرا عاديا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وقيل : إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الأصلين بقوله (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ) يعني أن يعيده (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم و (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد