السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] إلا الإنسان فإن كثيرا من الأشخاص بل أكثرها مائلة إلى أسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في (الْإِنْسانُ) للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس. وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلا ، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضا كان الزمان زمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضا قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولا ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوما وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٤] وقيل : إنه كان ظلوما جهولا في ظن الملائكة حيث قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) [البقرة : ٣٢] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفا كان بمعنى كونه مخاطبا لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) دون أن يقول «وقبلها» إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم. (لطيفة). الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أمينا عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس