بعد ذلك (وَقِفُوهُمْ) أي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكما وتوبيخا بالعجز عن التناصر (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) قد أسلم بعضهم بعضا وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون : إن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم (قالُوا) لرؤسائهم (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) وفيه وجوه ، الأول : أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعا وعرفا. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال ، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات ، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد ، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل : أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله. قال جار الله : من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك «أتاه عن اليمين» مجازا في المعنى المذكور. الثاني : أن يقال : فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث : اليمين الحلف ، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع : أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالبا أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في (قالُوا) الأول كان عائدا إلى الأتباع بقرينة الخطاب ، فالضمير في (قالُوا) الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً) مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) [إبراهيم : ٢٢] (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) قال مقاتل : أراد قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله : لو حكى الوعيد كما هو لقال «إنكم لذائقون» ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا : إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضا من الله كما مر في قوله (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا) هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان ، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق