بمنى وهذا أقوى ، والذين قالوا إنه إسحق قالوا إن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم يبيت المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ) إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثان فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة فكأنه قال : إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض المفسرين : رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة ، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم : حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله ، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له : أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه ، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل : لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي به فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير. أي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول : (فَلَمَّا أَسْلَما) أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. (وَتَلَّهُ) أي صرعه. واللام في (لِلْجَبِينِ) كهي في قوله (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) [الإسراء : ١٠٩] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل : كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد. يروى أنه حين أراد ذبحه قال : يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب ، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له : اشدد به رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن ، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل. فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له : كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله. قال جار الله : تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء ، وقد أشير إلى جميع ذلك بقوله (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا) الأمر الذي قد وقع (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه. يروى أنه لما وصل موضع السجود منه