وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام هاهنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بأزاء البادي. أجاب الأكثرون بأنه أراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه. والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) [الأعراف : ١٨٠] وقوله (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) حالان ومفعول (يُرِدْ) متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مرادا ما جائرا ظالما. وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى : ٤٠] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله. وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم. وعن مجاهد أنه الاحتكار. وقيل : المنع من عمارته. وعن عطاء : هو قول الرجل في المبايعة «لا والله» وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل «لا والله» و «بلى والله». والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده ، وهذا وإن كان واجبا في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أوكد فللمكان خاصية كما للزمان ولهذا قال مجاهد : تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود : أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنبا وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلا يهم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله تعالى عذابا أليما. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل : إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك ، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال (وَإِذْ بَوَّأْنا) أي وأذكر حين جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ، ويروى أن موضع البيت كان مطموسا فبعث الله تعالى ريحا كنست ما حوله حتى ظهر أسه القديم فبنى إبراهيم عليه وقد مر قصة ذلك في «البقرة». وقيل : بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال : يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في (أَنْ لا تُشْرِكْ) هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل : تعبدنا لإبراهيم قلنا له : لا تشرك وطهر وقد مر مثله في «البقرة». وإنما قال هاهنا (وَالْقائِمِينَ) لأن العاكف ذكر مرة في قوله (سَواءً الْعاكِفُ) والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أو بمعنى المقيم