من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي وما صح لأحد (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا) على أحد ثلاثة أنحاء: الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليهالسلام في ذبح ولده. وعن مجاهد أن داود عليهالسلام ألهمه الزبور فكتبه حفظا. الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب. والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان. وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وقيل: حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم. وقيل: حجاب لموضع الكلام. الثالث أن يرسل رسولا كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله. والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصا بالأول ، وتقدير الكلام: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا أو إلا وحيا أو إسماعا أو إرسالا ، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل. ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلا عطفا على (وَحْياً) بمعنى موحيا. وقيل: الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم ، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي. وقد يقال: إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات ، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة. فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله ، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه ، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك. وهذا الثالث مشهور متفق عليه ، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة. قال أهل التصديق: إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلىاللهعليهوسلم ، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح ، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج ، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث. ومعنى (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) [غافر: ١٥] و (ما كُنْتَ تَدْرِي) في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي (مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع. وقيل: أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن. والضمير في (جَعَلْناهُ) للقرآن أو الإيمان أولهما جميعا. ووحد كقوله (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة: