فودعتهم وزيره ودرجت عائدة إلى البيت ، وهي تفكر في أمرها وماذا ستفعل؟! فدلفت إلى البيت وجبال الهموم تتراكم عليها والعبرات تتكسر في صدرها ، وأنفاسها المتلاحقة تعدو أمامها ، وقلبها الخافق يكاد يمزق شغافه ، فانتبه أهل البيت من نومهم وتعجبوا من أمرها فسألوها : ما الخبر يا وزيرة؟ ماذا حدث لك؟ فأجابت : لا شيء .. لا شيء ، ثم سارعت إلى تسلق السلّم لربما سترت الغرفة على ما يجيش في خلدها ، ولكنها أحست بالاختناق ، فراحت تفتح النافذة لتبدد وحشتها وفزعها وفرحها وحزنها بين سقسقة العصافير وحفيف سعف غابات النخيل ، فتستنشق نسيم دجلة الفواح وينعشها أريجه.
خرجت وزيرة من بيتها والخوف يحاصرها والرعب يلاحقها ، وقد تقنعت بقناع وغطت وجهها لئلا يعرفها أحد ، واتجهت إلى بيت الحاجة أم عبد الأمير وهي تتصبب عرقاً من الحياء والخوف والاضطراب ، وكلما اقتربت من البيت تتضح نبرات صوت الخطيب وتتسرب إلى مسامعها لتنقذها من كابوس العقم وصراع النفس ، وتبعث فيها الأمل في الحياة.
ودخلت وزيرة والخطيب في بدايات المصيبة ، فلمّا علا صوت النساء بالعويل والبكاء أحست بالهم يداخلها والحزن يستولي عليها إلّا أنّ عينها لا زالت هامدة ؛ لأن الخطيب كان قد قطع كلامه ، وبعد لحظة عاد ليقول : إنّا لله وإنا اليه راجعون ، وأخذ يتكلّم عن شخصية أم البنين وآبائها وأجداها وفضائلهم وفضائلها ثم قال : قال الشاعر الشيخ أحمد الدجيلي : وأخذ يتلو أبياتاً بأشجى لحن وصوت حزين :
أم البنين وما اسمى مزاياك |
|
خلّدت بالعبر والايمان ذكراك |
أبناءك الغرّ في يوم الطفوف قضوا |
|
وضمنوا في ثراها بالدم الزاكي |