قائدهم ذلك الّذي طال انتظارهم اياه ، واشتد تشوقهم إليه كائن عند ميلين من مدينتهم قد نزل في قبا اياماً ، وسيقدم اليهم ويدخل مدينتهم بعد ايام؟ وكم سيكون مبلغُ ابتهاجهم ، وأي ابتهاج ترى سيعم كل صغير وكبير؟
إنه حقاً لأمر يعجزُ القلم عن بيانه ، ويكل اللسان عن وصفه.
ولقد كان لفتية الأنصار وشبابهم الضامئين إلى الإسلام الحنيف برنامجٌ رائعٌ وعظيمٌ ، فقد كانوا عمدوا بغية تطهير جوّ المدينة من ادران الوثنية إلى كل صنم في المدينة كان يقدّس ويعبد فاحرقوه وكسّروه ، وقد كان كل شريف في بيته صنمٌ يمسحه ويطيّبه ، ولكل بطن من الأوس والخزرج صنمٌ في بيت لجماعة يكرّمونه ويطيّبونه ، ويجعلون عليه منديلا ويذَبحون له (١).
ولا بأس في أن نذكر نموذجاً من هذا العمل الجليل الّذي قام به الانصار في التخلّص من الوثنية :
لماقدم من بايع من الأنصار في العقبة الثانية إلى المدينة اظهروا الإسلام بها وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دين الشرك وعبادة الأوثان منهم « عمرو بن الجموح » وكان من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم وكان ابنه « معاذ » بن عمرو قد شهد بيعة العقبة.
وكان عمرو هذا قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له : مناة ، كما كانت الاشراف يصنعون ، تتخذه إلهاً تعظّمه وتطهّره ، فلما أسلم فتيان بني سلمةَ : معاذ بن جبل ، وابنه معاذُ بن عمرو بن الجموح كانوا يتسلّلون في الليل إلى صنم عمرو بن الجموح فيحملونه ويطرحونه في بعض حُفَر بني سلمة ومزابلها ، وفيها فَضلاتِ الناس وعذرها منكَّساً على رأسه!!
فاذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟
ثم يغدو يلتمسه حتّى إذا وجده غسله وطهّره وطيّبه. ثم قال للصنم : أما واللّه لو أعلمُ من فَعَلَ هذا بك لاُخزينّه!
__________________
١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ١٠٧.