فإن جر على إضمار جار آخر مدلول عليه بالسابق جاز ؛ ووجه بما وجهت به قراءة حمزة (١) : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] أى : وبالأرحام (٢) ، فحذفت الباء لدلالة الباء التى قبلها عليها وبقى عملها.
__________________
(١) هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمى ، الزيات ، أحد القراء السبعة ، كان من موالى التيم فنسب إليهم ، كان عالما بالقراءات ، أجمعوا على قبول وتلقى قراءته ، قال الثورى : ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر ، مات سنة ١٥٦ ه.
ينظر : الأعلام (٢ / ٢٧٧) ، تقريب التهذيب ت (١٥٢٦).
(٢) قوله : (وَالْأَرْحامَ) الجمهور على نصب ميم «والأرحام» ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة أى : واتقوا الأرحام ، أى : لا تقطعوها ، وقدّر بعضهم مضافا أى : قطع الأرحام ، ويقال : «إنّ هذا فى الحقيقة من عطف الخاص على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله : اتقوا مخالفته ، وقطع الأرحام مندرج فيها».
والثانى : أنه معطوف على محل المجرور فى «به» نحو : مررت بزيد وعمرا ، لمّا لم يشركه فى الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع. ويؤيد هذا قراءة عبد الله : «وبالأرحام». وقال أبو البقاء : «تعظّمونه والأرحام ، لأنّ الحلف به تعظيم له».
وقرأ حمزة «والأرحام» بالجر ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه عطف على الضمير المجرور فى «به» من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تقدّم تحقيق القول فى هذه المسألة ، وأنّ فيها ثلاثة مذاهب ، واحتجاج كل فريق فى قوله تعالى : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ).
وقد طعن جماعة على هذه القراءة كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذى مذهبه جواز ذلك أنه قال : «حدّثنى شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم قال : «والأرحام» ـ بخفض الأرحام ـ هو كقولهم : و «أسألك بالله والرحم» قال : «وهذا قبيح» ، لأنّ العرب لا تردّ مخفوضا على مخفوض قد كنى عنه».
والثانى : أنه ليس معطوفا على الضمير المجرور بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجواب القسم : «إنّ الله كان عليكم رقيبا». وضعّف هذا بوجهين ، أحدهما : أن قراءتى النصب وإظهار حرف الجر فى «بالأرحام» يمنعان من ذلك ، والأصل توافق القراءات. والثانى : أنه نهى أن يحلف بغير الله تعالى والأحاديث مصرحة بذلك.
وقدّر بعضهم مضافا فرارا من ذلك فقال : «تقديره : وربّ الأرحام» قال أبو البقاء :
وهذا قد أغنى عنه ما قبله» يعنى الحلف بالله تعالى. ولقائل أن يقول : «إنّ لله تعالى أن يقسم بما شاء كما أقسم بمخلوقاته كالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نحن منهيين عن ذلك» ، إلا أنّ المقصود من حيث المعنى ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءة على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طعن من طعن فيها ، وحمزة بالرتبة السّنيّة المانعة له من نقل قراءة ضعيفة.
وقرأ عبد الله أيضا : «والأرحام» رفعا وهو على الابتداء ، والخبر محذوف فقدّره ابن عطية : «أهل أن توصل» ، وقدّره الزمخشرى : و «الأرحام ممّا يتقى ، أو : مما يتساءل به» ، وهذا أحسن للدلالة اللفظية والمعنوية ، بخلاف الأول ، فإنه للدلالة المعنوية فقط ، وقدّره أبو البقاء : «والأرحام محترمة» أى : واجب حرمتها. ينظر : الدر المصون (٢ / ٢٩٦).