اذا كان التجرد عن المرتكزات والأناة في الحكم والحرية في التفكير شروطاً للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الأساسية لاقامة بناء تاريخي محكم لقضايا اسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكاً للتأريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم يتعرف بها على لونه التاريخي والاجتماعي ووزنه في حساب الحياة العامّة أو في حساب الحياة الخاصة التي يعني بها الباحث وتكون مدار لبحثه كالحياة الدينية والاخلاقية والسياسية إلى غير ذلك من النواحي التي يأتلف منها المجتمع الإنساني على شرط ان تستمد هذه التأملات كيانها النظري من عالم الناس المنظور لا من عالم تبتدعه العواطف والمرتكزات ، وينشئه التعبد والتقليد لا من خيال مجنح يرتفع بالتوافه والسفاسف إلى الذروة ، ويبني عليها ما شاء من تحقيق ونتائج. لا من قيود لم يستطع الكاتب ان يتحرر عنها ليتأمل ويفكر كما تشاء له أساليب البحث العلمي النزيه.
واما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيراً كان أو شراً ولا لنحبس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث