لصاحبه ، فقال الجرمي : يجوز أن يكون كذلك في «زيد منطلق» لأن كل اسم منهما مرفوع في نفسه فجاز أن يرفع الآخر ، وأما الهاء في «ضربته» ففي محل النصب ، فكيف ترفع الاسم؟ فقال الفراء : لا نرفعه بالهاء ، وإنما رفعناه بالعائد على زيد ، قال الجرمي : ما معنى العائد؟ قال الفراء : معنى لا يظهر ، قال الجرمي : أظهره ، قال الفراء ؛ لا يمكن إظهاره ، قال الجرمي : فمثله ، قال : لا يتمثل ، قال الجرمي : لقد وقعت فيما فررت منه. فحكي أنه سئل الفراء بعد ذلك فقيل له : كيف وجدت الجرمي؟ فقال : وجدته آية ، وسئل الجرمي ، فقيل له : كيف وجدت الفراء؟ فقال : وجدته شيطانا.
وأما قولهم «إنا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف ولو كان ذلك [٢٦] موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة» قلنا : أما المنصوبات فإنها لا يتصور أن تكون مبتدأة ؛ لأنها وإن كانت متقدمة في اللفظ إلا أنها متأخرة في التقدير ؛ لأن كل منصوب لا يخلو إما أن يكون مفعولا أو مشبها بالمفعول ، والمفعول لا بد أن يتقدمه عامل لفظا أو تقديرا ، فلا تصح له رتبة الابتداء ، وإذا كانت هذه المنصوبات متقدمة في اللفظ متأخرة التقدير لم يصح أن تكون مبتدأة ؛ لأنه لا اعتبار بالتقديم إذا كان في تقدير التأخير ، وأما المسكنات إذا ابتدىء بها فلا يخلو إما أن تقع مقدّمة في اللفظ دون التقدير أو تقع مقدمة في اللفظ والتقدير : فإن وقعت متقدمة في اللفظ دون التقدير كان حكمها حكم المنصوبات ؛ لأنها في تقدير التأخير.
وإن وقعت متقدمة في اللفظ والتقدير فلا تخلو : إما أن تستحق الإعراب في أول وضعها ، أو لا تستحق الإعراب في أول وضعها :
فإن كانت تستحق الإعراب في أول وضعها نحو «من ، وكم» وما أشبه ذلك من الأسماء المبنية على السكون فإنا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ، وإنما لم يظهر في اللفظ لعلة عارضة منعت من ظهوره ، وهي شبه الحرف (١) أو تضمّن معنى الحرف.
وإن كانت لا تستحق الإعراب في أول وضعها ـ نحو الأفعال والحروف المبنية على السكون ـ فإنا لا نحكم على موضعها بالرفع بالابتداء ؛ لأنها لا تستحق شيئا من الإعراب في أول الوضع ، فلم يكن الابتداء موجبا لها الرّفع ؛ لأنه نوع منه.
وهذا هو الجواب عن قولهم : «إنهم يبتدئون بالحروف ، فلو كان ذلك موجبا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة» وعدم عمله في محل لا يقبل العمل لا يدل على عدم عمله في محل يقبل العمل ، ألا ترى أن السّيف يقطع في محلّ ولا يقطع في
__________________
(١) المراد بشبه الحرف ههنا الشبه الوضعي ، بدليل ذكره الشبه المعنوي بعده.