موثوق. فلم يكونوا يقنعون بقراءة الكتب مجردة من التوثيق الشفوي أو الكتابي لخوفهم من تحريفات النّسّاخ أولا ، ولتوثيق المكتوب ثانيا ، ولفهم المكتوب ـ بقراءته قراءة صحيحة ـ ثالثا.
* وفي القديم ، لم يكن يتصدّر للتدريس والتأليف ، والإملاء ، والإقراء ، والرواية إلا من اكتملت له الأدوات التي تجعله متبحّرا في فنّه. ولو تصدر للتعليم من قصّر عن درجة العلماء ، ما أقبل أحد عليه ، وما استمع أحد إليه ، ولكان افتضح بين الأقران. فالتعليم كان حرّا ، وطلبة العلم كانوا يملكون حريتهم في الجلوس إلى ذلك الشيخ ، أو الانصراف عنه ، ولم يكن ـ كما في أيامنا ـ تعليم إلزامي ، ومدارس إلزاميّة ، يجبر الطالب على الحضور أمام أساتذتها أحبّ أم كره.
ولذلك كان لنا من رصيد الماضي كوكبة من العلماء الأعلام ما زالوا المثل الأعلى ، نحثّ الخطى نحوهم ، فلا ندرك شأوهم. وتركوا لنا كنزا من المؤلفات فقد منه الكثير ، ووصلنا القليل ، ومع ذلك ما زلنا عاجزين عن الغوص في أعماق هذا القليل ، ونغرق في ضحضاحه.
ومما فاتنا استشراف آفاقه ومعرفة أسراره وأعماقه : التراث الأدبي : شعره ونثره.
* لأن نقّاد الشعر ودارسيه في العصر الحديث ، لم يهتدوا إلى «عمود الشعر العربي» فيما وصلنا من الشعر ، وما قعّده السابقون من قواعد الأدب ، فهم يحومون حول هذا التراث ، ولا يقتربون منه ، ويصفونه من بعيد ولا يخوضون غماره ليتذوقوا لبابه ، ولهذا كانت الدراسات الأدبية الحديثة سطحية ، لم تغص في الأعماق ، ولم تضع يدها على الأصداف. وصدق (محمد حافظ إبراهيم) القائل ـ على لسان لغة العرب :
أنا البحر في أحشائه الدرّ كامن |
|
فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي |
لقد ظهرت دراسات نقدية في بداية التأليف في العصر الحديث ، ومضى عليها اليوم خمسون سنة أو يزيد ، ومع ذلك بقي الأخلاف من بعد يعتمدون عليها ، ولا يتعدونها ، ويجعلون أحكامها الأدبية مسلّمات لا تحتمل النقاش ، مع وجود التطور الهائل في الطباعة والتحقيق وفي كميّة الكتب التراثية التي أصدرتها المطابع. وقد