ثانيا
منهج الأنباريّ النّحويّ في كتاب «أسرار العربيّة»
يعدّ ابن الأنباريّ من متأخّري النّحاة ، وهو أحد أعلام المدرسة البغداديّة ـ كما هو معلوم ـ فطبعيّ أن يكون هذا الرّجل ـ بتأخّره ، وذكائه ، وإخلاصه في طلب العلم ، وباستقامته التي عرف بها طول حياته ـ أن يتحرّر من الأهواء ، وأن ينهج النّهج الذي يتّفق مع قناعاته ، واستنتاجاته التي توصّل إليها بعد طول مدارسة ومعاناة. وقد رأينا ابن الأنباريّ في كتابه المشهور :«مسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين» ذا عين بصيرة ، وقوّة في عرض حجج كلّ من البصريّين والكوفيّين ، وغيرهم ، ومن ثمّ تفنيد الحجج التي يراها بعيدة عن الصّواب ، وتأييد الحجج التي يقتنع بها ، مبيّنا في كثير من الأحيان سبب تبنّيه لرأي دون رأي ، ولحجّة دون أخرى ، بطريقة علميّة موضوعيّة مقنعة. وهو إذ وافق البصريّين في أكثر مسائل الخلاف ، لا لانحيازه إليهم ـ كما يرى بعض الدّارسين (١) ـ بل لأنّه رأى آراءهم أكثر سدادا ، وحججهم أكثر إقناعا ؛ وعلى كلّ فإليه يعود الفضل في إظهار أسس كلّ مذهب من المذهبين ؛ ولا يضيره بعد ذلك اقتناعه بآراء أحد الفريقين ، ولا سيما إذا وجده الأنسب ، والأقرب إلى الصّواب وفق اعتقاده.
وقد سار أبو البركات في كتاب «أسرار العربيّة» على النّهج نفسه من حيث العرض ، والتّفنيد ، والتّأييد ، وإن كان في أكثر الأبواب يؤيّد آراء البصريّين ؛ لكونها أكثر إقناعا ، وأقلّ تكلّفا.
وأمّا موضوع كتاب «أسرار العربيّة» بشكل عام ، فهو العلل النّحويّة والإعرابيّة ، وأسباب تسمية مسمّيات كثير من المصطلحات النّحويّة ، وأسباب تسمية الحركات ، وصيغ الجموع ، وغير ذلك. وكان ابن الأنباريّ في منتهى
__________________
(١) راجع : الوسيط في تاريخ النّحو العربي ، ص ١٣٧.