تعويضا عن المحذوف ، وتقوية لهما ؛ والوجه الثّاني : إنّما بنوهما على الضّمّ ؛ لأنّ النّصب والجرّ يدخلهما ؛ نحو : جئت قبلك ومن قبلك ، وأمّا الرّفع فلا يدخلهما البتّة ؛ فلو بنوهما على الفتح والكسر ؛ لالتبست حركة الإعراب بحركة البناء ، فبنوهما على حركة ، لا تدخلهما وهي الضّمة ؛ لئلّا تلتبس حركة الإعراب بحركة البناء. وأمّا أين وكيف فإنّما بنيا على الفتح ؛ لأنّهما تضمّنا معنى حرف الاستفهام ؛ لأنّ «أين» سؤال عن المكان ، و «كيف» سؤال عن الحال ، فلمّا تضمّنا معنى حرف الاستفهام ، وجب أن يبنيا ، وإنّما بنيا على حركة لالتقاء السّاكنين ، وإنّما كانت الحركة فتحة ؛ لأنّها أخفّ الحركات. وأمّا «أمس» فإنّما بنيت ؛ لأنّها تضمّنت معنى لام التّعريف ؛ لأنّ الأصل في «أمس» الأمس ، فلّما تضمّنت معنى اللّام ، تضمّنت معنى الحرف ؛ فوجب أن تبنى. وإنّما بنيت على حركة لالتقاء السّاكنين ، وإنّما كانت الحركة كسرة ، لأنّها الأصل في التّحريك لالتقاء السّاكنين. ومن العرب من يجعل «أمس» معدولة عن لام التّعريف ، فيجعلها غير مصروفة (١) ؛ قال الشّاعر (٢) : [الرّجز]
لقد رأيت عجبا مذ أمسا |
|
عجائزا مثل السّعالي قعسا |
يأكلن ما في رحلهنّ همسا |
|
لا ترك الله لهنّ ضرسا (٣) |
وأمّا «هؤلاء» فإنّما بنيت لتضمّنها معنى حرف الإشارة وإن لم ينطق به ؛ لأنّ الأصل في الإشارة أن تكون بالحرف كالشّرط ، والنّفي ، التّمنّي ، والعطف ، إلى غير ذلك من المعاني ، إلّا أنّهم لمّا لم يفعلوا ذلك ؛ ضمّنوا «هؤلاء» معنى حرف الإشارة ، فبنوها ، ونظير «هؤلاء» «ما» التي في التّعجّب ، فإنّها بنيت. لتضمّنها معنى حرف التّعجّب ، وإن لم يكن له (٤) حرف ينطق به ؛ لأنّ الأصل في التّعجّب أن يكون بالحرف كغيره من المعاني ، إلّا أنّهم لمّا لم يفعلوا ذلك ،
__________________
النّحاة يسمّون الضّمّ والفتح عند ما تكونان علامة بناء ، والضّمّة والفتحة عند ما تكونان علامة رفع ونصب ؛ أي حين تكون الضّمّة علامة رفع ، والفتحة علامة نصب.
(١) أي علامة الرّفع فيها الضّمّة ، وعلامة النّصب والجرّ الفتحة.
(٢) لم ينسب هذان البيتان إلى شاعر معيّن.
(٣) السّعالي : جمع سعلاة ؛ وهي الغول ، أو ساحرة الجنّ كما يزعمون. وروي : «خمسا» بدل «قعسا» في بعض الكتب النّحويّة.
موطن الشّاهد : «أمسا» وجه الاستشهاد : مجيء «أمس» غير منصرفة ، فكانت علامة الجرّ فيها الفتحة بدل الكسرة ، والألف للإطلاق.
(٤) في (ط) لها ، وما أثبتناه من (س) وهو الصّواب.