[حمل النّصب على الجرّ]
فإن قيل : هل النّصب محمول على الجر ، أو الجرّ محمول على النصب؟ قيل : النّصب محمول على الجرّ ؛ لأنّ دلالة الياء على الجرّ ، أشبه من دلالتها على النّصب ؛ لأن الياء من جنس الكسرة ، والكسرة في الأصل ، تدلّ على الجرّ ، فكذلك ما أشبهها.
فإن قيل : فلم حمل النّصب على الجرّ دون الرّفع؟ قيل : لخمسة أوجه :
الوجه الأوّل : أنّ الجرّ ألزم للأسماء من الرّفع ؛ لأنّه لا يدخل على الفعل ، فلمّا وجب الحمل على أحدهما ، كان حمله على الألزم أولى من حمله على غيره.
والوجه الثّاني : أنّهما يقعان في الكلام فضلة ، ألا ترى أنّك تقول : «مررت» فلا تفتقر إلى أن تقول : بزيد أو نحوه ، كما أنّك إذا قلت : رأيت ، فلا تفتقر إلى أن تقول : زيدا ، أو نحوه.
والوجه الثّالث : أنّهما يشتركان في الكتابة ؛ نحو : رأيتك ، ومررت بك.
والوجه الرّابع : أنّهما يتشركان في المعنى ؛ تقول : مررت بزيد ، فيكون في معنى : جزت زيدا.
والوجه الخامس : أنّ الجرّ أخفّ من الرّفع ، فلّما أرادوا الحمل على أحدهما ؛ كان الحمل على الأخفّ أولى من الحمل على الأثقل. ويحتمل ـ عندي ـ وجها سادسا (١) : وهو أنّ النّصب من أقصى الحلق ، والجرّ من وسط الفم ، والرّفع من الشّفتين ، وكان النّصب إلى الجرّ أقرب من الرّفع ؛ لأنّ أقصى الحلق أقرب إلى وسط الفم من الشّفتين ، فلمّا أرادوا حمل النّصب على أحدهما ؛ كان حمله على الأقرب أولى من حمله على الأبعد ، والجارّ أحقّ بصقبه (٢) ، والذي يدلّ على اعتبار هذه المناسبة بينهما ، أنّهم لما حملوا النّصب على الجرّ في باب التّثنية والجمع ؛ حملوا الجرّ على النّصب في باب ما لا ينصرف.
فإن قيل : فما حرف الإعراب في التّثنية والجمع؟ قيل : اختلف النّحويّون في ذلك ؛ فذهب سيبويه (٣) إلى أنّ الألف ، والواو ، والياء ، هي حروف
__________________
(١) في (ط) وجه سادس ؛ والصّواب ما أثبتناه من (س).
(٢) بصقبه : أي بما جاوره ، وقرب منه.
(٣) مرّت ترجمته.