والملاحظ في هذه الآية المباركة أن الله سبحانه استخدم لفظة الهجر ولم يستخدم مكانها لفظة الترك ، ولعل الأمر يعود إلى أن الترك يعني التخلي تماماً عنهم ، بينما الهجر يحمل معه معنى امكانية الرجوع إليهم والتبليغ فيهم مرة ثانية ، ولأجل هذه الاحتمالية يلزم أن يكون الهجر جميلاً ؛ لأنهم في حاجة إلى المعاودة والنصح والارشاد الذي لا يتحقق مع تواصل الهجر المستمر بلا انقطاع. ومن هنا يعلم أنّ رحمة الله عزَّ وجل لا يمكن تصور حدودها ، فهي شملت حتى من يسيء إلى مقام الرسل والانبياء ، أملاً أن يصلُحوا في مستقبل أيامهم ويعودوا إلى حضيرة الإسلام لينهلوا من آدابه ويتخلقوا بمكارم أخلاقه.
ولا يخفى ما في ذلك من عبرة عظيمة ، وموعظة جليلة ، إذ يمكن للمسلم الرسالي أن يستثمر الصبر على الاذى والهجر الجميل ؛ ليحصد ما يحمد عقباه.
( وَلا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (١) في هذه الآية المباركة يتبين لنا حكم الله جلّ جلاله في المجالين : التكويني والتشريعي ، عند التفريق بين الحسن والحسنة من جهة ، والسيء والسيئة من جهة اُخرى ؛ إذ إنّ إرادته سبحانه شاءت أن تكون الطبيعة ويكون العقل شاهدين على التفاوت بين الاثنين ، وإلاّ كان الحسن والقبيح على حدٍ سواء ، والمحسن والمسيء بمنزلة واحدة ، وواقع الحال ليس كذلك ؛ إذ عدم التساوي بين الحسنة والسيئة
__________________
(١) فصلت ٤١ : ٣٤.