صيرتَ واحداً منها اسماً قوّيته بحرفٍ ثالث مُخرجٍ من حرفٍ ثان كقوله :
إنّ ليتاً وإنّ لوًّا عناءُ
جعل لوًّا اسماً حين نعَتَه.
وروى الليث بن المظفر عن الخليل بن أحمد في أول «كتابه» : هذا ما ألّفه الخليل بن أحمد من حرف : ا ب ت ث ، التي عليها مدار كلام العرب وألفاظها ، ولا يخرج شيء منها عنها ؛ أراد أن يعرف بذلك جميع ما تكلمت به العرب في أشعارها وأمثالها وألا يشذّ عنه منها شيء.
قلت : قد أشكل معنى هذا الكلام على كثير من الناس حتى توهّم بعض المتحذلقين أن الخليل لم يَفِ بما شرَط ، لأنَّه أهمل من كلام العرب ما وُجد في لغاتهم مستعملاً.
وقال أحمد البشتيّ الذي ألَّف كتاب «التكملة» : نقضَ الذي قاله الخليل ما أودعناه كتابنا هذا أصلاً ؛ لأنَّ كتابنا يشتمل على ضعفَيْ «كتابِ الخليل» ويزيد. وسترى تحقيق ذلك إذا حُزْت جملتَه ، وبحثت عن كنهه.
قلت : ولمَّا قرأت هذا الفصل من «كتاب البشتيّ» استدللت به على غفلته وقلة فطنته وضعف فهمه ، واشتففت أنه لم يفهم عن الخليل ما أراده ، ولم يفطن للذي قصَده. وإنما أراد الخليل رَحِمه الله أن حروف ا ب ت ث عليها مدار جميع كلام العرب ، وأنه لا يخرج شيء منها عنها ، فأراد بما ألّف منها معرفةَ جميع ما يتفرع منها إلى آخره ، ولم يُرد أنه حصَّلَ جميع ما لفظوا به من الألفاظ على اختلافها ، ولكنه أراد أنّ ما أسَّسَ ورسَم بهذه الحروف وما بين من وجوه ثنائيِّها وثلاثيّها ورُباعيّها وخماسيّها ، في سالمها ومعتلّها على ما شرح وجوهها أوَّلاً فأوَّلاً ، حتى انتهت الحروف إلى آخرها ـ يُعرف به جميع ما هو من ألفاظهم إذا تُتُبِّع ، لا أنّه تتبعه كلّه فحصَّله ، أو استوفاه فاستوعبه ، من غير أن فاته من ألفاظهم لفظة ، ومن معانيهم للفظ الواحد معنًى.
ولا يجوز أن يخفى على الخليل مع ذكاء فطنته وثقوب فهمه ، أن رجلاً واحداً ليس بنبيٍ يُوحى إليه ، يُحيط علمُه بجميع لغات العرب وألفاظها على كثرتها حتى لا يفوته منها شيء وكان الخليل أعقل من أن يظنَّ هذا ويقدِّره ، وإنما معنى جِماع كلامه ما بيَّنته. فتفهمْه ولا تغلط عليه.
وقد بيَّن الشافعي رَضي الله عنه ما ذكرته في الفصل الذي حكيته عنه في أول كتابي هذا فأوضحه. أعاذنا الله من جهل الجاهل ، وإعجاب المتخلف ، وسَدَّدنا للصواب بفضله.