يبتدىء : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) له ، على أنه لا ولد له. والوقف على (الْعابِدِينَ) تامّ. قلت : قد ذكرتُ أقاويل مَن قدّمنا ذكرهم ، وفيه قول أحسن من جميع ما قالوا وأَسْوغ في اللغة ، وأبعد من الاستكراه وأسرع إلى الفهم.
رَوَى عبد الرازق عن مَعْمَر عن ابن أبي نَجِيع عن مجاهد في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزّخرُف : ٨١] يقول : إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عَبَدَ الله وحده وكذّبكم بما تقولون.
قلت : وهذا واضح. وممّا يزيده وضوحاً أن الله جلّ وعزّ قال لنبيّه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ) يا محمد للكفار (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في زعمكم (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) إلهَ الخلق أجمعين الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، وأولّ الموحِّدين للرب الخاضعين المطيعين له وحده ؛ لأن من عَبَدَ الله واعترف بأنه معبوده وحده لا شريك له فقد دَفَعَ أن يكون له ولد. والمعنى : (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) في دعواكم فالله جلّ وعزّ واحد لا شريك له ، وهو معبودي الذي لا ولد له ولا والد.
قلت : وإلى هذا ذهب إبراهيم بن السَرِيّ وجماعة من ذوي المعرفة ، وهو القول الذي لا يجوز عندي غيره.
وقال الله جلّ وعزّ : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشُّعراء : ٢٢] الآية.
قلت : وهذه الآية تقارِب التي فسّرنا آنفاً في الإشكال ، ونذكر ما قيل فيها ونخبر بالأصحّ الأوضح ممَّا قيل.
أخبرني المنذريّ عن أبي العباس أنه قال : قال الأخفش في قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : يقال : إن هذا استفهامٌ ، كأنه قال : أوَ (تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ)! ثم فَسَّر فقال : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فجعله بدلاً من النعمة.
قال أبو العبّاس : وهذا غلط ؛ لا يجوز أن يكون الاستفهام يُلْقى وهو يُطْلَبُ ، فيكون الاستفهام كالخبر. وقد استُقبح ومعه (أم) وهي دليل على الاستفهام. استقبحوا قول امرىء القيس :
تروح من الحَيّ أم تَبْتَكِرْ
قال بعضهم : هو أتروح من الحيّ أم تبتكر فحذف الاستفهام أوّلاً واكتفى بأم. وقال أكثرهم : بل الأول خبر والثاني استفهام. فأمَّا وليس معه (أم) لم يقله إنسان.
قال أبو العباس : وقال الفرّاء : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) ، لأنه قال : (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) لنعمتي أي لنعمة تربيتي لك ، فأجابه فقال : نعم هي نعمة (عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم تستعبدني. يقال : عَبَّدَتُ العَبِيد وأعبدتهم أي صيّرتُهم عبيداً ، فيكون موضع (أَنْ) رفعاً ويكون نصباً وخفضاً. من رَفَع ردّها على النعمة ، كأنه قال : وتلك نعمة تعبيدك بني إسرائيل ولَمْ تُعَبِّدْني. ومن خفض أو نصب أضمر اللام. قلت : والنصب أحسن الوجوه ، المعنى : أن فرعون لمّا قال لموسى : (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) [الشعراء : ١٨] فاعتَدّ فرعونُ على