أين تعترف وتصبر. وذكّر (معترف) لأن لفظ المطيّ مذكَّر. وأمَّا قول الله جلّ ذكره (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) [المُرسَلات : ١] فقال بعض المفسّرين فيها : إنها أُرسلت بالمعروف ، والعرف والعارفة والمعروف واحد ، وهو كلّ ما تعرفه النفْس من الخير وتَبْسَأ به وتطمئنّ إليه. قال الله جلّ وعزّ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعرَاف : ١٩٩]. وقيل في قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) [المرسلات : ١] : إنها الملائكة أُرسلت متتابعة كعُرف الفرس. وقرئت (عُرْفاً) و (عُرُفاً) والمعنى واحد. وقيل (الْمُرْسَلاتِ) : هي الرُسُل. أبو العباس عن ابن الأعرابيّ : عَرَف الرجل إذا أكثر من الطِيب ، وعرِف إذا ترك الطيب. وقول الله جلّ وعزّ : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) [التَّحْريم : ٣] وقرىء (عَرَف بعضه) بالتخفيف.
قال الفراء : من قرأ : (عَرَّفَ) بالتشديد فمعناه : أنه عرَّف حَفْصة بعضَ الحديث وترك بعضاً. قال : وكأنّ من قرأ (عَرَف) بالتخفيف قال : غَضِب من ذلك وجازى عليه ؛ كما تقول للرجل يسيء إليك : والله لأعرفنَ لك ذلك. قال : وقد ـ لعمري ـ جازى حفصةَ بطلاقها. قال الفرّاء : وهو وجه حسن ، قرأ بذلك أبو عبد الرحمن السُلَميّ. قلت : وذهب أبو إسحاق إبراهيم ابن السريّ في معنى (عَرَّفَ) و (عَرَف) إلى نحو ممَّا قاله الفرّاء. قلت : وقرأ الكسائي والأعشى عن أبي بكر عن عاصم : (عَرَفَ بعضه) خفيفةً. وقرأ حمزة ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر اليحصبيّ (عَرَّفَ بَعْضَهُ) بالتشديد.
وأما قول الله جلّ وعزّ : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محَمَّد : ٦] فإن الفرّاء قال : يعرَّفون منازلهم إذا دخلوها ، حتى يكون أحدهم أعرف بمنزله في الجنة منه بمنزله إذا رجع من الجمعة إلى أهله. وقلت : وهذا قول جماعة من المفسّرين ، وقد قال بعض اللغويين : إن معنى (عَرَّفَها لَهُمْ) أي طيَّبها ، يقال : طعام معرَّف أي مطيَّب. وقال الأصمعي في قول الأسود بن يعفر يهجو عِقَال بن محمد بن شفين :
فتُدخَل أيد في حناجر أُقْنِعت |
لعادتها من الخَزِير المعرَّف |
أُقنعت أي مُدَّت ورُفِعت للَّقْم. والله أعلم بما أراده. وقال أبو العباس : قال بعضهم في قول الله عزوجل : (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) : وهو وضعك الطعام بعضَه على بعض من كثرته. وخَزِير معرَّف : بعضه على بعض.
وقال ابن الأعرابي : العَرْف : الرائحة ، تكون طيّبة وغير طيّبة. وأما قول الله جلّ وعزّ : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) [الأعراف : ٤٨] فالأعراف في اللغة : جمع عُرْف ، وهو كل عال مرتفع. وقال بعض المفسّرين : الأعراف : أعالي سُور بين أهل الجَنَّة وأهل النار. وأصحابها قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم ، فلم يستحقُّوا الجنَّة بالحسنات ،