مكانِي منك ، فأَثْنَى عليه عَمْرو شَرّاً ، ثم قال : والله ما كَذَبْتُ عليه في الأُولى ولا في الآخرة ، ولكنه أرضاني فقلت بالرِّضا ، ثم أَسْخَطَني فقلت بالسُّخْطِ ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ من البَيَان لسِحْراً».
قال أبو عُبَيد : كأنّ المعنى ـ والله أعلم ـ أنه يَبْلُغُ من بَيَانِه أَنَّه يَمْدَحُ الإنسانَ فيَصْدُقُ فيه حتى يَصْرِفَ القلوب إلى قوله ، ثم يَذُمُّهُ فيَصْدُقُ فيه حتى يَصْرِفَ القُلُوبَ إلى قولِه الآخر ، فكأنّه قد سَحَر السامعين بذلك. قلت : وأصل السِّحْرِ صَرْفُ الشيء عن حَقِيقَتِه إلى غيره.
وقال الفرّاء في قول الله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٩] معناه فأَنَّى تُصْرَفُون ، ومِثْلُه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فَاطِر : ٣] ، أُفِكَ وسُحِرَ سواء.
وأخبرني المُنْذِري عن ابن فهم عن محمد بن سَلَّام عن يُونُسَ في قوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٩] قال : تُصْرَفُون.
قال يونس : تقول العرب للرّجل : ما سَحَرَكَ عن وَجْه كذا وكذا ، أي ما صَرَفَك عنه.
وقال شَمِر : قال ابن عائشة : العَرَبُ إنما سَمَّت السِّحْرَ سِحْراً لأنه يُزِيلُ الصحة إلى المرض ، وإنما يقال : سَحَرَه أي أزاله عَنِ البُغْضِ إلى الحب. وقال الكُمَيْت :
وقَادَ إليها الحُبَّ فانْقَادَ صَعْبُه |
بِحُبٍّ من السِّحْرِ الحَلَال التَّحَبُّبُ |
يريد أنّ غَلَبَةَ حُبّها كالسّحر ولَيْسَ به ، لأنه حُبٌّ حَلَالٌ ، والحَلَالُ لا يكون سحراً ، لأن السِّحْرَ فيه كالْخِدَاعِ. قال شَمِر : وأَقْرَأَني ابن الأعرابيّ للنَّابِغَةِ :
فقالت يَمِينُ الله أَفْعَلُ إنَّني |
رأَيْتُك مَسْحُوراً يَمِينُك فاجِرَه |
قال : مسحوراً : ذَاهِبَ العَقْلِ مُفسَداً.
قال : وطعَامٌ مَسْحُورٌ إذا أُفْسِدَ عَمَلُه ، وأرضٌ مَسْحُورَة : أصَابَهَا من المَطَرِ أكثَرُ مِمَّا ينبغي فأفْسَدَها ، وغَيْثٌ ذو سِحْرِ إذا كان ماؤُه أكثَرَ مِمَّا ينبغي.
وقال ابن شُميل : يقالُ للأرض التي ليس فيها نبت ، إنما هي قاعٌ قَرَقُوسٌ. أرض مَسْحُورَة : لا تنبت ، وعَنْزٌ مَسحُورَةٌ : قليلَةُ اللَّبَن. وقال : إِنَّ البَسْقَ يَسْحَرُ أَلْبَانَ الغَنَم ، وهو أن يَنْزِلَ اللَّبَنُ قَبْلَ الوِلَادِ.
وقال الفَرَّاء في قول الله جلّ وعزّ : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشُّعَرَاء : ١٥٣] قالوا لنبي الله : لستَ بمَلَكٍ إنما إنت بشر مثلنا.
قال : والمُسَحَّرُ : المُجَوَّفُ ، كأنه والله أَعْلم أُخِذَ من قَولِك : انْتَفَخَ سَحْرُك أي أنك تَأْكُلُ الطَّعامَ والشَّرابَ فَتُعَلَّلُ به ، وقال لَبِيدٌ :
فإنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نحن فإنَّنَا |
عَصَافِيرُ من هذا الأَنَامِ المُسَحَّرِ |
يريد المُعَلَّل المخدوع ، قال : ونرى أنّ الساحر من ذلك أُخِذَ لأن كالخديعة.
وقال غيره : (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشُّعَرَاء : ١٥٣] أي مِمّن سُحِرَ مَرَّةً بعد مَرَّة. والسِّحْرُ سُمِّي سِحْراً : لأنه صَرْفُ الشيءِ عن