ليدلّ أوّل الكلام على التشبيه من أوّل وهلة ، وفتحت همزة أنّ للجارّ ، فصارا حرفا واحدا مدلولا بهما على التشبيه والتاكيد (١). والقائل بأنّها بسيطة ، يلزمه أن تكون لمطلق التشبيه ، لأنّها موضوعة له كالكاف.
فإن قلت على القول بتركيبها بم يتعلّق الجارّ؟ قلت : قال ابن جنّي : هو حرف لا يتعلّق بشيء لمفارقته الموضع الّذي يتعلّق فيه بالاستقرار ، ولا يقدّر له عامل غيره لتمام الكلام بدونه ولا هو زائد لإفادته التشبيه.
كاف التشبيه لا يتعلّق دائما عند بعضهم : قال ابن هشام ، وليس قوله بأبعد من قول أبن الحسن : إنّ كاف التشبيه لا يتعلّق دائما ، قال : ولمّا رأي الزّجاج أنّ الجارّ غير الزائد حقّه التعلّق ، قدّر الكاف هاهنا اسما بمترلة مثل ، فلزمه أن يقدّر له موضعا ، فقدّره مبتدأ ، فاضطرّ إلى أن قدّر له خبرا لم ينطق به قطّ ، ولا المعنى مفتقر إليه ، فقال : معنى كأنّ زيدا أخوك ، مثل أخوة زيد إيّاك كائن ، وقال الأكثرون : لا موضع لأنّ وما بعدها ، لأنّ الكاف وأنّ صارا بالتركيب كلمة واحدة. قال ابن هشام : وفيه نظر ، لأنّ ذاك في التركيب الوضعيّ ، لا في التركيب الطاريّ ، انتهى.
وردّه الدمامينيّ بأنّ هذا تركيب وضعيّ ، لأنّ واضع اللغة في معتقد هؤلاء هو الّذي وضعه كذلك ، وليس من الأمور الّتي طرأت في الاستعمال من غير أن يكون للوضع فيها مدخل ، انتهى.
لا تجىء كأنّ للتحقيق ولا للتقريب : ولا تجي للتحقيق خلافا للكوفيّين ، ولا حجّة لهم في قوله [من الوافر] :
١٣٩ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعّرا |
|
كأنّ الأرض ليس بها هشام (٢) |
لأنّه محمول على التشبيه ، فإنّ الارض ليس بها هشام حقيقة ، بل هو مدفون فيها. ولا للتقريب ، نحو : كأنّك بالدنيا لم تكن ، وبالآخرة لم تزل ، خلافا لهم ولأبي الحسن الأنصاريّ (٣) ، ولا للنفي ، نحو : كأنّك دالّ عليها ، أي ما أنت دالّ عليها خلافا للفارسيّ.
__________________
(١) حذفت هذه الجملة في «س».
(٢) لم يسمّ قائله ، ويرثي به الشاعر هشام بن عبد الملك. اللغة : أراد ببطن مكة : تحت أرضها الّتي يدفن الأموات ، مقشرّ : اسم الفاعل من اقشعرّ بمعنى أخذه رعدة أو يبس.
(٣) يحيى ابن عبد الله أبو الحسن الأنصاري النحويّ ، كان من أعيان أهل العربية ومات سنة ٦٣ ه. بغية الوعاة ٢ / ٣٣٦.