صيغة الحصر ، كما قال تعالى : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) [الحج / ٧٧] ، وقال : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف / ٤٠] ، بل قوله تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر / ٦٦] ، ولو لم تكن للاختصاص ، وكان معناها اعبد الله ، لما حصل الإضراب الّذي هو معنى بل.
واعترض أبو حيّان على مدّعي الاختصاص ، بنحو : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) [الزمر / ٦٤] ، وأجيب بأنّه لمّا كان من أشرك بالله غيره ، كأنّه لم يعبد الله ، كان أمرهم بالشرك ، كأنّه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة. وردّ صاحب الفلك الدائر (١) الاختصاص بقوله تعالى : (كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ) [الأنعام / ٨٤] ، وهو أقوي ما ردّ به ، وأجيب بأنّه لا يدّعي فيه اللزوم ، بل الغلبة ، وقد يخرج الشي عن الغالب.
قال الشيخ بهاء الدين السّبكيّ : وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) [الأنعام / ٤٠ و ٤١] ، فإنّ التقديم في الأولى قطعا ليس للإختصاص ، وفي إيّاه قطعا للاختصاص ، انتهى. وعلى قول الجمهور فشرطه أن لا يكون التقديم مستحقّا.
الحصر والاختصاص مترادفان أم لا : تنبيه : المشهور أنّ الحصر والإختصاص مترادفان ، واختار تقيّ الدين السّبكيّ (٢) التفرقة بينهما ، فقال : اشتهر كلام الناس في المعمول يفيد الاختصاص ، وقد يفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر ، وليس كذلك ، وإنّما الاختصاص شيء ، والحصر شيء آخر ، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر ، وإنّما عبّروا بالاختصاص ، والفرق بينهما أنّ الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور ، والاختصاص قصد الخاصّ من جهة خصوصه من غير تعرّض لنفي غيره ، انتهى.
وقوله : إنّ الفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظ الحصر ممنوع ، فقد ذكرها غير واحد ، وهذه مسألة بيانيّة تطفّلنا بها تبعا للمصنّف ، رحمه الله ، وإلا فالتقديم والتأخير اللّذان يلزم النحويّ النظر فيهما هما ما اقتضته صناعة من الجواز والوجوب فقط ، لا ذكر فوائد هما ، ووجوبا في مسألتين ، أشار إلى الأولى بقوله (٣) «للزومه الصدر» أي صدر الكلام ، وذلك إذا تضمّن معنى الاستفهام ، نحو : (أَيًّا ما تَدْعُوا) [الإسراء / ١١٠] ، أو أضيف إلى ما تضمّن معنى أحدهما ، نحو : علام أيّهم ضربت ، علام من تضرب أضرب.
__________________
(١) الفلك الدائر على المثل السائر لعز الدين عبد الحميد ابن هبة الله المدائني (المعروف بابن أبي الحديد) المتوفى سنة ٦٥٥ ه. كشف الظنون ، ٢ / ١٢٩١.
(٢) على بن عبد الكافي السبكي تقي الدين النحويّ اللغويّ ، صنف نحو مائة وخمسين كتابا مطولا ومختصرا ، منها : تفسير القرآن ، الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص ومات سنة ٧٥٥ ه. بغية الوعاة ، ٢ / ١٧٧.
(٣) سقط بقوله في «ح».