ففي القسم الأوّل يمتنع التقديم ، لأنّه من باب تقديم معمول الصلة على الموصول ، فإن تقدّم ما يتخيّل أنّه معمول للمصدر قدّر له عامل متقدّم يفسّره المتأخّر ، كما إذا قلت : أعجبني عن الشعر بعدك ، فالتقدير : أعجبني بعدك عن الشر بعدك ، وحذف المصدر مدلولا عليه بالمذكور آخرا ، وفي القسم الثاني يجوز تقديم معمول الّذي هو ظرف أو شبهه للانتفاء المانع ، نحو : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) [النور / ٢] ، (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) [يونس / ٢] ، ومنه قول كعب في قصيدته المشهورة [من البسيط] :
٦١٢ ـ ضخم مقلّدها فعم مقيّدها |
|
في خلقها عن بنات الفحل تفضيل (١) |
قال ابن هشام في شرحه لهذه القصيدة عن بنات الفحل يتعلّق بتفضيل ، وإن كان مصدرا ، لأنّه ليس بمنحل بأن والفعل ، ومن ظنّ أنّ المصدر لا يتقدّم معموله عليها مطلقا فهو واهم ، انتهى.
المصدر يعمل منوّنا ومضافا ومقرونا باللام : ثمّ المصدر يعمل منوّنا ومضافا ومقرونا باللام ، لكن إعماله مضافا للفاعل مع ذكر المفعول أو حذفه أكثر من إعماله منوّنا أو مضافا للمفعول أو مقرونا باللام ، نحو : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة / ٢٥١] ، وأمّا إعماله مضافا للمفعول مع ترك الفاعل فكثير ، نحو : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) [فصلت / ٤٩] ، ومع ذكره قليل ، وليس خاصّا بالشعر كما زعم بعضهم بدليل قوله تعالى : (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران / ٩٧] ، أي وأن يحجّ البيت سبيلا.
قال ابن هشام وغيره : ولا يصحّ الاستدلال بآية الحجّ ، لأنّها ليست من ذلك في شيء ، بل الموصول في موضع جرّ بدل بعض من الناس ، أو في موضع رفع بالابتداء على أنّ من موصولة ضمّنت معنى الشرط أو شرطيّة ، وحذف الجزاء والجواب أي من استطاع فليحجّ ، ويؤيّد الابتداء : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران / ٩٧] ، وأمّا الحمل على الفاعلية فمفسد للمعنى ، إذ التقدير حينئذ ولله على الناس أن يحجّ المستطيع ، فعلى هذا إذا لم يحجّ المستطيع ، يأثم الناس كلّهم ، انتهى.
قال بعضهم وفي دعوى فساد المعنى نظر ، لأنّ حجّ المستطيع فرض كفاية على جميع المكلّفين ، ومعلوم أنّ المخاطبين بفرض الكفاية إذا لم يقم به أحد منهم فكلّهم آثمون ، انتهى ، فتأمّل.
__________________
(١) هذا البيت من قصيدة بانت سعاد. اللغة : المقلّد : موضع القلادة ، الرقبه ، فعم : واسع ، المقيد : موضع القيد ، بنات الفحل : النوق.