هذا مذهب الجمهور ، وذهب أبو علي والشلوبين وابن هشام الخضراويّ إلى التزام الإفراد ، لأنّ العرب التزمته في كلّ تمييز منصوب عن عدد أو كناية ككم الاستفهاميّة وكأيّن وكذا ، وردّ بأنّ ذلك فيما يجب نصبه ، لا فيما يجوز نصبه وجرّه. وهل يجوز جرّه مع الفصل بظرف أو مجرور؟ مذاهب ، أصحّها لا ، لما فيه من الفصل بين المتضايفين ، وذلك ممنوع إلا في ضرورة كقوله [من الرمل] :
٩٩٨ ـ كم بجود مقرف نال العلى |
|
وكريم بخله قد وضعه (١) |
الثاني : نعم ، وعليه يونس ، بناء على رأيه من جواز الفصل بين المتضايفين في السعة بذلك ، والكوفيّون بناء على رأيهم أنّ الجرّ بمن مقدّرة ، وإنّما جوّزوا عمل الجارّ المقدّر هاهنا ، وإن كان في غير هذا الموضع نادرا ، لكثرة دخول من على مميّز الخبريّة ، نحو : (كَمْ مِنْ مَلَكٍ) [النجم / ٢٦] ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) [الأعراف / ٤] ، والشيء إذا عرف في موضع جاز تركه لقوّة الدلالة عليه (٢).
والثالث : الجواز ، إن كان الظرف أو المجرور (٣) ناقصا ، وهو ما لا يفهم بمجرّد ذكره وذكر معموله ما يتعلّق به ، نحو : كم بك مأخوذ أتاني! وكم اليوم جائع جاءني! والمنع إن كان تامّا. وعزا الأندلسيّ هذا القول إلى يونس ، وردّ بأنّ العرب لم تفرق بين الظرف التامّ والناقص في الفصل ، بل تجريهما مجرى واحدا ، ومن الفصل بالمجرور التّامّ قوله [من الكامل] :
٩٩٩ ـ كم في بني سعد بن بكر سيّد |
|
ضخم الدّسيعة ماجد نفّاع (٤) |
فإن كان الفصل بجملة لم يجز الجرّ في كلام ولا شعر عند البصريّين ، لأنّ الفصل بالجملة بين المتضايفين لا يجوز ألبتّة ، وجوّزه الكوفيّون بناء على أنّ الجرّ بمن لا بالاضافة ، وجوّزه المبرّد في الشعر فقط ، وروي قوله [من البسيط] :
١٠٠٠ ـ كم نالنى منهم فضل على عدم |
|
... (٥) |
__________________
(١) البيت لأنس بن زنيم. اللغة : المفرف : النّذل اللئيم الأب.
(٢) يذهب البصريّون إلى أنّ كم الخبريّة هي العاملة فيما بعدها الجرّ ، أي تضاف إلى مميّزها ، والكوفيّون إلى أنّ جرّ المميّز بمن المقدّرة ، يقول أبو البركات الأنباري : والّذي يدلّ على فساد ما ذهب الكوفيّون إليه أنّ حرف الجرّ لا يجوز أن يعمل مع الحذف ، إلا ربّ بعد الواو والفاء وبل. الإنصاف في مسائل الخلاف ، ١ / ٣٠٧. ويقول الزمخشريّ : والخبريّة مضافة إلى مميّزها ، عاملة فيه عمل كلّ مضاف في المضاف إليه ، فإذا وقعت بعدها «من» ، وذلك كثير في استعمالهم ، منه قوله تعالى ، (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ)(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ،) كانت منوّنة في التقدير ، كقولك : كثير من القري ومن الملائكة ، وهي عند بعضهم منوّنة أبدا ، والمجرور بعدها بإضمار «من». المفصّل في صنعة الإعراب ص ٢٢١.
(٣) إن كان الظرف أو المجرور سقط فى «ط».
(٤) هو للفرزدق اللغة : الدسيعة : العطية أو الجفنة ، النفّاع : صيغة مبالغة من النفع.
(٥) تقدم برقم ٩٩٥.