وكأن ما استقاه ، من العلم ، لم يملأ نفسه ويشبع نهمه ، ولم يكن كافيا لمنصب التعليم والاقراء ، الذي كان يطمح إليه. فيمّم شطر دمشق ، يأخذ عن أعلامها ، ويستزيد من ينابيعها. وهناك لقي أبا اليمن الكندي (١) ، تاج الدين زيد بن الحسن ، وسأله عن مواضع مشكلة في العربية. فأبدى الشيخ إعجابه بعلم ابن يعيش وفطنته ، وكتب له رقعة ، يمدح فيها تقدمه في علم العربية ، والفن الأدبي.
وبذلك رجع ابن يعيش إلى مدينة حلب ، راضيا بزاده ، واثقا بنفسه ، وتصدّر للتعليم والاقراء في علوم العربية والأدب. فأصبح شيخ الجماعة في تلك المدينة ، وموئل الطلاب والعلماء والفقهاء والسادة.
لقد عرف موفق الدين بالحذق في التعليم ، وحسن التفهيم ، والصبر على المتعلمين ، وخفة الروح ، وظرف الشمائل ، وكثرة المرح مع سكينة ووقار. حتى عظم شأنه وفاق أقرانه ، وانتهى إليه علم العربية ، وقصده الناس من مختلف البلاد ، وأصبح لديه جماعة من النابهين المتميزين. وقد تخرّج به خلق كثير ، حتى قيل : إن غالب فضلاء حلب تلاميذ له. وكان أشهر من تخرّج به ياقوت الحموي (٢) ، وابن خلّكان (٣) ، وجمال الدين الوائلي محمد بن أحمد الشريشي (٤) ، وأبو بكر الدشتي (٥).
وقد كثرت مجالس ابن يعيش في حلب ، فكان منها مجلس في جامعها بالمقصورة الشمالية ، يقرىء فيه بعد العصر. وآخر في المدرسة الرواحية ، يقرىء فيه بين الصلاتين.
__________________
(١) إنباه الرواة ٢ : ١٠ ـ ١٤.
(٢) إرشاد الأريب ٣ : ٤٧ و ٧٧.
(٣) وفيات الأعيان ٦ : ٤٦ ومفتاح السعادة ١ : ٢٥٧.
(٤) نفح الطيب ٢ : ٧١٧.
(٥) مفتاح السعادة ١ : ١٩٧.