فعلى هذا لا يقدر الإنسان على إضلال نفسه ولا هدايتها كما لا يقدر على أن يجعل نفسه من أهل الجنة أو النار ، ولو حاول لتحصيل شيء منها ، سبقَ الكتابُ حائلاً بينه وبين إرادته ، وهذا هو نفس القول بأنّ الإنسان مسيّر لا مخيّر.
ثمّ إنّ الإمام النووي الشارح لصحيح مسلم نظر إلى هذه الأحاديث بعين الرضا والقبول ، فلما رأى انّها لا تفارق الجبر قيد شعرة حاول تأويل قوله : «فيسبق عليه الكتاب» في كلا الموضعين ، وقال : «انّ هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنّه غالب فيهم».
ثمّ إنّ من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلابُ الناس من الشر إلى الخير في كثرة وأمّا انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة ، وهو نحو قوله تعالى : «إنّ رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي». (١)
يلاحظ عليه أوّلاً : بانّ حمل أحد الطرفين على الغلبة والطرف الآخر على وجه الندرة قسمة ضيزى فانّ ظاهر الحديث أنّ سبق الكتاب في الطرفين سيّان.
وثانياً : انّ الحديث ظاهر في غلبة القدر على عمل الإنسان ونيته فربما يجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً ، ولا صلة له بسبق رحمته على غضبه والظاهر انّ هذه الأحاديث حيكت على وفق عقائد اليهود الذين ذهبوا إلى انّ يده سبحانه مغلولة فبعد ما قضى ، لا يتمكن من تغييره ، غُلَّت أيديهم.
٢. وروى عنه أيضاً حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة فيقول : يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان ، فيقول : أي رب أذكر أو أُنثى؟ فيكتبان ، ويكتب عمله
__________________
(١) شرح صحيح مسلم للنووي : ١٦ / ٤٣٥.