فإنّ في ضرب البيت بكوفة الجند والمهاجرة إليها إيماء إلى أنّ طريق بناء الخبر ممّا ينبئ عن زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، ثمّ أنّه يحقّق زوال المودّة ، ويقرّره حتّى كأنّه برهان عليه ، وهذا (١) معنى تحقيق الخبر وهو مفقود في مثل : إنّ الّذي سمك السّماء ، إذ ليس في رفع الله تعالى السّماء تحقيق وتثبيت لبنائه لهم بيتا ، فظهر الفرق بين الإيماء وتحقيق الخبر [وبالإشارة (٢)] أي تعريف المسند إليه بإيراده اسم الإشارة [لتمييزه] أي المسند إليه [أكمل تمييز (٣)]
______________________________________________________
عليه ، وذلك فيما إذا كانت الصّلة تصلح دليلا لوجود الخبر وحصوله نحو قوله :
إنّ الّتي ضربت بيتا مهاجرة |
|
بكوفة الجند غالت ودّها غول |
تحقيق الكلام في مفردات البيت المذكور : «ضربت» بمعنى أقامت ، «مهاجرة» اسم فاعل باب مفاعلة من الهجرة ، بمعنى الخروج من أرض إلى أخرى «كوفة الجند» مركّب إضافي ، اسم بلدة مشهورة ، سمّيت بذلك لإقامة جند كسرى فيها ، «الجند» كقفل ، هو الجيش «غالت» بمعنى هلكت «الودّ» بمعنى الحبّ «غول» بمعنى المهلك ، وهو نوع من الجنّ. ومحلّ الشّاهد : قوله : «الّتي ضربت» حيث أوتي بالمسند إليه موصولا كي يكون مشيرا إلى أنّ الخبر المبني عليه أمر من جنس زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، وتعريضا بتحقيقه وتثبيته في ذهن المخاطب بحيث لا يبقى معه شكّ فيه ، وذلك لأنّ ضربها البيت في كوفة الجند مهاجرة من الوطن الأصليّ معلول عادة عن زوال المحبّة وانقطاع المودّة ، ولا ريب أنّ الذّهن إذا التفت إلى المعلول ينتقل منه إلى علّته انتقالا قطعيّا ، وهذا معنى تحقيق الخبر ، وضمير «عليه» عائد إلى زوال المحبّة.
(١) كأنّه جواب عن سؤال مقدّر ، وهو أنّه لا فرق بين الإيماء وتحقيق الخبر ، بل هما سواء ، وحاصل الجواب : إنّ معنى تحقيق الخبر أنّ صلة الموصول برهان على وجود الخبر بخلاف الإيماء حيث إنّ مجرّد الإيماء لا يكون محقّقا للخبر ما لم يكن الموصول المومى باعتبار صلته برهانا إنّيّا أو لمّيّا عليه ، فكلّ موصول يكون محقّقا للخبر مومى له ، ولا عكس ، فبينهما عموم وخصوص مطلق.
(٢) عطف على قوله : «وبالعلميّة».
(٣) إضافة «أكمل» إلى ال «تمييز» من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف ، فالمعنى التّمييز الأكمل ، هو أن يكون التّمييز بالقلب والعين معا ، ولا يحصل ذلك إلّا باسم الإشارة ، لأنّ الإشارة بمنزلة وضع اليد عليه.