وكذلك إذا اسندت التصبب الى العراق فقلت : (تصبب العرق) كان اسنادي واضحا لا غموض فيه لان العرق سائل ، ومن طبيعه السوائل والموائع ان تسيل وتتصبب. ولكن الغموض يعتري اسنادي اذا قلت : (تصبب زيد) فانا في هذا الكلام اسندت ـ أي نسبت ـ التصبب الى زيد ، وزيد جامد ، والجوامد لا تسيل ولا تتصب ، وانما ينسب التصبب والسيلان الى الموائع لا الجوامد. وفي هذا الحال أقول : إن النسبة غامضة ، وسبب الغموض أني نسبت شيئا (وهو التصبب) الى غير صاحبه الحقيقي (وهو العرق). فلهذا وجب ان نميز هذه النسبة الغامضة فنأتي بالفاعل الحقيقي منصوبا ونسميه تمييزا فنقول : (تصبب زيد عرقا) ، وكان الأصل (تصبب عرق زيد) (١).
و (الكثرة) لا يمكن اسنادها ونسبتها إلا إلى شيء متعدد ، الى المال مثلا أو الى الحبوب أو الى الأولاد ... الخ. فاذا نسبت الكثرة إلى نفسي فقلت : (انا اكثر منك) كانت النسبة غامضة لأني فرد واحد لا يمكن أن يتعدد ، وبالتالي لا يمكن أن أكون كثيرا ولا قليلا. وهنا يأتي التمييز ليزيل هذا الغموض في النسبة فأقول : (أنا أكثر منك مالا) وليس المال الا الشيء المتعدد القابل لأن تنسب إليه الكثرة وهو الذي كان يجب علي أن اسند الكثرة إليه لانه في الواقع هو الكثير لا أنا ، أي كان يجب أن يكون كلامي هكذا : (مالي أكثر من مالك). وأخيرا فان التمييز اذا ميز ذاتا غامضة سمي (تمييز الذات أو التمييز الملفوظ) وإذا ميز إسنادا أي نسبة غامضة سمي (تمييز النسبة أو التمييز الملحوظ).
__________________
(١) في الحقيقة ان تمييز النسبة هو نوع من الرجوع عن (مجاز) خشي ان يكون فيه غموض بحيث لا يفهم.
فعندما يقال : (تصبب زيد) نكون امام (مجاز) استعمل فيه (الكل) وهو (زيد) واريد منه الجزء وهو (العرق) ثم أراد المتكلم ان يرجع عن هذا (المجاز) فذكر ما كان قد جازه وهو (العرق) وبما أن هذا الفاعل الحقيقي جاء متأخرا فقد نصب.