ويظهر ذلك (١) في نحو قولنا : رأيت أسودا غابها الرّماح ، ولا يصحّ رماحها الغاب (٢).
______________________________________________________
فالضّابط الصّحيح أن يقال : إنّ الشّيء إذا كان له صفتان من صفات التّعريف ، فإن كانتا معلومتين للسّامع تفصيلا ، فإن كان اللّفظ الدّال على إحداهما أعرف من اللّفظ الدّال على الأخرى يجب تقديم ما هو أعرف على غيره ، وإن كانا متساويين من جهة التّعريف فللمتكلّم حينئذ الخيار ، وكذلك الحال فيما إذا كانتا معلومتين إجمالا أو مجهولتين رأسا ، وإن كانت إحداهما معلومة تفصيلا أو إجمالا والأخرى مجهولة رأسا ، فيجعل اللّفظ الدّالّ على الأولى مقدّما والدّالّ على الثّانية مؤخّرا ، وكذلك إن كانت إحداهما معلومة تفصيلا ، والأخرى معلوما إجمالا. وهذا هو الضّابط الصّحيح المتكفّل لبيان حكم جميع الأقسام.
ثمّ إنّ هذا فيما إذا لم يقتض أمر تقديم ما يدلّ على أحدهما ، وإلّا فالمتعيّن تقديمه ، كما إذا سأل السّامع عن تعيين ما هو معلوم له بالإجمال ، فعندئذ يقدّم اللّفظ الدّالّ عليه ، ويجعل مبتدأ وإن كان مدلوله معلوما بالإجمال ، ومدلول الآخر معلوما بالتّفصيل.
(١) أي ما ذكرناه في الضّابط ، من أنّ ما يعلم اتّصاف الذّاتّ به يقدّم اللّفظ الدّالّ عليه ، ويؤخّر لفظ ما يجهل اتّصاف الذّاتّ به ، وجه الظّهور أنّ المعلوم للأسود عند السّامع هو الغاب ، لأنّه مبيتها دون الرّماح ، لأنّ السّامع إذا سمع أسود يلتفت إلى الغاب ، حيث إنّ إضافة الأسد إلى الغابة معروفة يقال : أسد الغابة ، فذكره يلوّح إليها ، ولكن لا يلتفت السّامع إلى أنّ للأسود رماحا ، فالغابة في المثال المذكور تكون معلومة له بالإجمال ، والرّماح مجهولة رأسا ، ولازم ذلك بمقتضى الضّابط المتقدّم أن تجعل غابها مبتدأ ، والرّماح خبرا ، والمراد بالأسود هنا المعنى المجازي وهو الشّجعان ، ففيه استعارة مصرّحة وغابها الرّماح قرينته.
(٢) لأنّ ثبوت الرّماح لها مجهول رأسا ، وذلك لعدم العلم بالرّماح للأسود ، وعدم سبق ما يلوح إليها ، فلا وجه لجعل الرّماح مبتدأ بل هو فاسد حسب ما تقتضيه البلاغة ، وذلك لأنّ الغاب معروفة أنّها للأسود ، لأنّ الغاب كما في المصباح جمع الغابة ، وهي الأجمة من القصب والأسود غالبا تسكن فيها.