وهو مع استغنائه عن إعادته ، وقلّة حاجة السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمة ، ولا زلّت به قدم ، ولا بارت له حجّة ، ولم يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبذّ الخطب الطّوال بالكلم القصار. ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم ، ولا يحتجّ إلا بالصّدق. ولا يطلب الفلج (١) إلا بالحق ، ولا يستعين بالخلابة ، ولا يستعمل المواربة ، ولا يهمز ولا يلمز (٢) ، ولا يبطىء ولا يعجل ، ولا يسهب ولا يحصر (٣) ، ثم لم يسمع الناس بكلام قطّ أعمّ نفعا ، ولا أقصد لفظا ، ولا أعدل وزنا ، ولا أجمل مذهبا ، ولا أكرم مطلبا ، ولا أحسن موقعا ، ولا أسهل مخرجا ، ولا أفصح معنى ، ولا أبين عن فحواه (٤) ، من كلامه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ» (٥)
وقال «القاضي أبو الفضل عياض» ـ ٥٤٤ ه : «وأما فصاحة اللسان ، وبلاغة القول ، فقد كان ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من ذلك بالمحلّ الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة (٦) طبع ، وبراعة (٧) منزع (٨) ، وإيجاز مقطع (٩) ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحّة معان ، وقلّة تكلّف ، أوتي جوامع الكلم (١٠) ، وخصّ ببدائع الحكم ، وعلّم ألسنة العرب ، فكان يخاطب كلّ أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه
__________________
(١) الفلج : الفوز والظفر.
(٢) الهمز : الغيبة في الغيبة ، واللمز : العيب في الحضرة.
(٣) حصر يحصر حصرا ، من باب تعب : عي في كلامه.
(٤) فحواه : معناه.
(٥) «البيان والتبيين» ٢ : ١٧ ـ ١٨.
(٦) سلاسة : سهولة.
(٧) «البراعة» مصدر «برع» أي : فاق.
(٨) المنزع : المأخذ.
(٩) مقطع : تمام الكلام.
(١٠) جمع : جامعة ، أي : أوتي الكلم الجوامع للمعاني.