للعربي في هذه المعاني ، تكون كفايته ، ومقدار تسديده في باب الوضع.
وليس في العرب قاطبة من جمع الله فيه هذه الصفات ، وأعطاه الخالص منها ، وخصه بجملتها ، وأسلس له مآخذها ، وأخلص له أسبابها ، كالنبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو اصطنعه لوحيه ، ونصبه لبيانه ، وخصه بكتابه ، واصطفاه لرسالته ، وما ذا عسى أن يكون وراء ذلك في باب الإلهام ، وجمام الطبيعة ، وصفاء الحاسة ، وثقوب الذهن ، واجتماع النفس ، وقوة الفطرة ، ووثاقة الأمر كله بعضه إلى بعض.
ولا يذهبنّ عنك أن للنشأة اللغوية في هذا الأمر ما بعدها ، وأن أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة ، للطبيعة والمخالطة والمحاكاة ، ثم ما يكون من سمو الفطرة ، وقوتها ، فإنما هذه سبيله : يأتي من ورائها ، وهي الأسباب إليه ؛ وقد نشأ النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، وتقلّب في أفصح القبائل وأخلصها منطقا ، وأعذبها بيانا ، فكان مولده في بني هاشم ، وأخواله في بني زهرة ، ورضاعه في سعد بن بكر ، ومنشؤه في قريش ، ومتزوّجه في بني أسد ، ومهاجرته إلى بني عمرو ، وهم الأوس والخزرج من الأنصار ، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة ؛ ولقد كان في قريش وبني سعد وحدهم ما يقوم بالعرب جملة ، ولذا قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، ونشأت في بني سعد بن بكر» (١).
وهو قول أرسله في العرب جميعا ، والفصاحة أكبر أمرهم ، والكلام سيد عملهم ، فما دخلتهم له حميّة ، ولا تعاظمهم ، ولا ردّوه ، ولا غضّوا منه ، ولا وجدوا إلى
__________________
(١) هم بنو سعد بن بكر ، وكانوا من العرب الضاربة حول مكة ، وكان أطفال القرشيين يتبدون فيهم وفي غيرهم ، يطلبون بذلك نشأة الفصاحة ، ولا يزال كبراء مكة إلى اليوم يرسلون أحداثهم إلى أماكن هذه القبائل من البادية ، وخاصة إلى قبيلة عدوان في شرق الطائف ، وهي قريبة من بني سعد ، وإنما يطلبون بذلك إحكام اللهجة العربية ، وصحة النشأة ، وحرية النزعة. وما إليها مما هو الأصل في هذه العادة يتوارثونها في التربية العربية من قديم.
وبنو سعد هؤلاء غير بني سعد بن زيد مناة بن تميم ، الذين من لغتهم إبدال الحاء هاء لقرب المخرج ، وليست لغتهم خالصة في الفصاحة.
والرواة جميعا على أن بني سعد بن بكر خصوا من بين قبائل العرب بالفصاحة ، وحسن البيان. أه «الرافعي».