ولهذا الاعتبار رسم المنهج الرفيع في دراسة النحو ، فتعاقبت طوائف النحاة ، وتوالت زمرهم في ميدانيه ، وتلقى الراية نابغ عن نابغ ، وألمعيّ في إثر ألمعيّ ، وتسابقوا مخلصين دائبين ، فرادى وزرافات ، في إقامة صرحه ، وتشييد أركانه ، فأقاموه سامق البناء ، وطيد الدّعامة ، مكين الأساس وهذا ما حمل علماء اللغة الأجانب على الاعتراف بفضلهم ، والإشادة ببراعتهم (١).
وكانت الناس فيما سلف تتعاير باللحن (٢) ، وكان مما يسقط الرجل بالمجتمع أن يلحن ، حتى قال «عبد الملك بن مروان» ـ ٨٦ ه وقد قيل له : (أسرع إليك الشيب) : شيبني ارتقاء المنابر مخافة اللحن.
وكان يرى اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب النفيس (٣).
قال «الأصمعي» : خاصم «عيسى بن عمر الثقفي النحوي» رجلا إلى «بلال بن أبي بردة» فجعل «عيسى» يتتبّع الإعراب ، وجعل الرجل ينظر إليه ، فقال له «بلال» : لأن يذهب بعض حقّ هذا أحبّ إليه من ترك الإعراب ، فلا تتشاغل به ، واقصد لحجّتك (٤).
قال «علي بن محمد الأشموني» ـ نحو ٩٠٠ ه قال «المطرزي» ـ ٦١٦ ه : نقط الياء من (قائل) و (بائع) عامي ، قال : ومرّ بي في بعض تصانيف «أبي الفتح ، ابن جني» ـ ٣٩٢ ه أن «أبا علي» ـ ٣٧٧ ه دخل على واحد من المتسمين بالعلم ، فإذا بين يديه جزء مكتوب فيه (قايل)
__________________
(١) من ذلك ما قاله «دي بور» في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام» ، ونصه كما جاء في ترجمة د. محمد أبي ريدة ، ص : ٤ ـ : «علم النحو أثر رائع من آثار العقل العربي ، بما له من دقة في الملاحظة ، ومن نشاط في جمع ما تفرق ، وهو أثر عظيم يرغم الناظر فيه على تقديره ، ويحق للعرب أن يفخروا به». مقدمة «النحو الوافي».
(٢) قالوا : أول لحن سمع بالبادية : هذه عصاتي ، وأول لحن سمع في العراق : حيّ على الفلاح (بكسر الياء بدل فتحها). «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٩.
(٣) «عيون الأخبار» ٢ : ١٥٨ ومن قول ابنه «مسلمة» : «اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه».
(٤) «البيان والتبيين» ٢ : ٢١٨.