ومنه قول ابن الرومي في الحديث :
وحديثها السّحر الحلال لو انّه |
لم يجن قتل المسلم المتحرّز |
|
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت |
ودّ المحدّث أنّها لم توجز |
|
شرك العقول ونزهة ما مثلها |
للمطمئن وعقلة المستوفز |
فقد استقصى وصف حديث هذه المحبوبة استقصاء تاما.
وفرّق المصري بين هذا الفن الذي ابتدعه والتتميم والتكميل ، فقال : «والفرق بين الاستقصاء والتتميم والتكميل كون التتميم يرد على معنى ناقص فيتم بعضه ، والتكميل يرد على التام فيكمل وصفه ، والاستقصاء له مرتبة ثالثة فانه يرد على الكامل فيستوعب كل ما تقع عليه الخواطر من لوازمه بحيث لا يترك لآخذه مجالا لاستحقاقه من هذه الجملة» (١).
وكان عبد القاهر قد تحدث عن استقصاء التشبيه وقال : «ويشبه هذا الموضع في زيادة أحد التشبيهين مع أنّ جنسهما واحد وتركيبهما على حقيقة واحدة بأنّ في أحدهما فضل استقصاء ليس في الآخر قول ابن المعتز في الآذريون (٢) :
وطاف بها ساق أديب بمبزل |
كخنجر عيّار صناعته الفتك |
|
وحمّل آذريونة فوق أذنه |
ككأس عقيق في قرارتها مسك |
مع قوله :
مداهن من ذهب |
فيها بقايا غاليه |
الأول ينقص عن الثاني شيئا ، وذلك أنّ السواد الذي في باطن الآذريونة الموضوع بازاء الغالية والمسك فيه أمران :
أحدهما : أنّه ليس بشامل لها.
والثاني : أنّ هذا السواد ليس صورته صورة الدرهم في قعرها.
أعني أنّه لم يستدر هناك بل ارتفع من قعر الدائرة حتى أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات وله في منقطعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن إذا كانت بقية بقيت عن الاصابع. وقوله : «في قرارتها مسك» يبين الأمر الأول ويؤمن دخول النقص عليه كما كان يدخل لو قال : «ككأس عقيق فيها مسك» ولم يشترط أن يكون في القرارة. وأما الثاني من الأمرين فلا يدلّ عليه كما يدلّ قوله : «بقايا غالية» وذاك أنّ من شأن المسك والشيء اليابس إذا حصل في شيء مستدير له قعر أن يستدير في القعر ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي تراه في سواد الآذريونة ، وأما الغالية فهي رطبة ثم هي تؤخذ بالاصابع ، واذا كان كذلك فلا بدّ في البقية منها من أن تكون قد ارتفعت عن القرارة وحصلت بصفة شبيهة بذلك السواد ، ثم هي لنعومتها ترقّ فتكون كالصبغ الذي لا جرم له يملك المكان وذلك أصدق للشبه» (٣).
ونقل ابن الأثير الحلبي والسيوطي تعريف المصري للاستقصاء وأمثلته (٤) ، وقال السبكي إنّه «قريب من مراعاة النظير» (٥).
الاستلحاق :
وهو من باب الأخذ والاستعانة ، وقد قرنه السابقون
__________________
(١) تحرير ص ٥٤٣ ، بديع القرآن ص ٢٥١.
(٢) الآذريون ؛ جنس زهر ، برتقالي اللون يكثر على شواطىء البحر المتوسط ويزرع في الحدائق.
(٣) أسرار البلاغة ص ١٦١ ـ ١٦٢.
(٤) جوهر الكنز ص ٢٢٣ ، معترك الأقران ج ١ ص ٣٧٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٧٥.
(٥) عروس الأفراح ج ٤ ص ٤٧٠.