ذلك فيستحب فيه الاختصار والاقتصار ، وقد أتى الكتاب العزيز بهما جميعا ، وذلك لما يصلح بالمكانين ، وقد مدحت العرب التطويل والتقصير فقالوا :
يرمون الخطب الطوال وتارة |
يومون مثل تلاحظ الرقباء |
ومدح بعضهم خطيبا فقال :
إذا هو أطنب في خطبة |
قضى للمطيل على المقصر |
|
وإن هو أوجز في خطبة |
قضى للمقلّ على المكثر (١) |
وعرّفه الكلاعي تعريفا بديعا فقال إنّه «ما رفل ثوب لفظه على جسده معناه» (٢) ثم قال : «موطن الاسهاب ما يكتب به الى عامة وتقرع به آذان جماعة كالصلح بين العشائر والتحضيض على الحرب والتحذير من المعصية والترغيب في الطاعة وغير ذلك مما له بال. فحينئذ يجب على الكاتب ان يبدئ ويعيد ويحذر بالتكرير وينذر بالترديد» (٣). وهذا ما قاله الجاحظ وابن منقذ من قبل.
الإشارة :
هي الايماء عند المتقدمين لأنّ الاشارة هي الايماء يقال : أشار اليه باليد أي أومأ ، وأشار الرجل يشير إشارة إذا أومأ بيديه ، ويقال : شوّرت اليه بيدي وأشرت اليه :
اي لوّحت اليه (٤).
وعدّ الجاحظ الاشارة من أصناف الدلالات على المعاني (٥) ، لكنه لا يريد بها المعنى البلاغي الذي ذكره قدامة في باب «ائتلاف اللفظ والمعنى» وقال «هو أن يكون اللفظ القليل مشتملا على معان كثيرة بايماء أو لمحة تدلّ عليها كما قال بعضهم وقد وصف البلاغة فقال : هي لمحة دالّة» (٦) ، وذلك مثل قول امرئ القيس :
فان تهلك شنوءة أو تبدّل |
فسيري إنّ في غسّان خالا |
|
بعزهم عززت وإن يذلوا |
فذلّهم أنالك ما أنالا |
فبنية هذا الشعر على أنّ ألفاظه مع قصرها قد أشير بها الى معان طوال فمن ذلك قوله : «تهلك» أو «تبدل» ، ومنه قوله : إنّ في غسّان خالا» ، ومنه ما تحته معان كثيرة وشرح طويل وهو : «أنا لك ما أنالا».
وذكرها الجاحظ مرة أخرى بهذا المعنى وربطها بالوحي والحذف وقال : «ورأينا الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الاشارة والوحي والحذف ، واذا خاطب بني اسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا وزاد في الكلام» (٧).
والى ذلك ذهب العسكري (٨) وذكر البيتين السابقين.
وفعل مثله الباقلاني (٩) ، وقال ابن رشيق : «والاشارة من غرائب الشعر وملامحه ، وبلاغته عجيبة تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرّز والحاذق الماهر ، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة واختصار وتلويح يعرف مجملا ومعناه بعيد من ظاهر لفظه» (١٠). وعدّ من أنواع الاشارة التفخيم ، والايماء ، والتعريض ، والتلويح ، والكناية ، والتمثيل ، والرمز ، واللمحة ، واللغز ، واللحن ، والتعمية ، والحذف ، والتورية. وفعل مثل ذلك ابن سنان
__________________
(١) البديع في نقد الشعر ص ١٨٢.
(٢) إحكام صنعة الكلام ص ٨٩.
(٣) إحكام صنعة الكلام ص ٩٠.
(٤) اللسان (شور).
(٥) البيان ج ١ ص ٧٦.
(٦) نقد الشعر ص ١٧٤ ، حلية المحاضرة ج ١ ص ١٣٩ ، نضرة الاغريض ص ٣٣.
(٧) الحيوان ج ١ ص ٩٤.
(٨) كتاب الصناعتين ص ٣٤٨.
(٩) إعجاز القرآن ص ١٣٦.
(١٠) العمدة ج ١ ص ٣٠٢.