وعلم البيان.
ورأى الرازي أنّ إعجاز الكتاب العزيز وبلاغته راجعان الى الفصاحة التي يشتمل عليها نظمه وبدائعه (١).
واستعرض السكاكي الآراء في الإعجاز فوجد أنها أربعة ثم أورد وجها خامسا رآه أحسن الآراء وخير الوجوه ، وقال : «فهذه أقوال أربعة يخمّسها ما يجده أصحاب الذوق أنّ وجه الاعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا طريق لك الى هذا الخامس إلا طول خدمة هذين العلمين ـ المعاني والبيان ـ بعد فضل إلهي من هبة يهبها بحكمته من يشاء ، وهي النفس المستعدة لذلك فكل ميسر لما خلق له ، ولا استبعاد في انكار هذا الوجه ممن ليس معه ما يطلع عليه ، فلكم سحبنا الذيل في إنكاره ثم ضممنا الذيل ما ان ننكره ، فله الشكر على جزيل ما أولى ، وله الحمد في الآخرة والأولى» (٢). وانتهى الى أنّ شأن الاعجاز يدرك ولا يوصف كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة ، قال : «ومدرك الاعجاز عندي هو الذوق ليس إلا ، وطريق اكتساب الذوق خدمة هذين العلمين ـ المعاني والبيان ـ نعم للبلاغة وجوه ملتثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتجلى عليك أما نفس وجه الاعجاز فلا» (٣). وهذه نظرة تعتمد على الذوق والادراك الروحاني أكثر من اعتمادها على التعليلات التي أوردها كثير من العلماء. وهذا ما يحمد للسكاكي الذي عاش في زمن تحكّم المنطق فيه وأخذت النظرة العقلية تطغى في التعليل والتفسير.
وكان لهذه الآراء وغيرها أثر في دراسة البلاغة لأنّها دفعت الناس الى الوقوف على أساليبه وما فيه من فنون القول ، ولذلك كانت معظم كتب «إعجاز القرآن» كتبا بلاغية ، وهذا من فضل القرآن العظيم.
الأعداد :
تحدّث الرازي عن التّعديد وقال : «هو إيقاع الأعداد من الأسماء المفردة في النثر والنظم على سياق واحد ، فإن روي فيه ازدواج أو تجنيس أو مطابقة أو مقابلة أو نحوها فذلك في غاية الحسن» (٤). ومنه قول القائل : «فلان اليه الحلّ والعقد والقبول والردّ والأمر والنهي والإثبات والنفي» ، وقول المتنبي :
الخيل والليل والبيداء تعرفني |
والطّعن والضّرب والقرطاس والقلم |
وقال ابن الزملكاني : «هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد» (٥) ، كقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(٦) ، وقوله : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ)(٧).
وقال الحلبي والنويري إنه يسمّى : «سياقة العدد» أو «سياقة الأعداد» ونقلا كلام الرازي ومثاليه :النثري والشعري (٨). وكان الثعالبي قد سمّاه «سياقة الأعداد» (٩). وفعل مثل ذلك الوطواط الذي قال : «سياقة الأعداد : وتكون هذه الصنعة بأن يسوق الكاتب أو الشاعر في نثره أو نظمه عددا من الأسماء المفردة على نسق واحد بحيث يكون كل واحد من هذه الأسماء له معنى قائم بذاته ويكون اسما كذلك لشيء آخر. وهذه الصنعة أكثر قبولا وأشد أسرا إذا اقترنت بازدواج اللفظ أو التجنيس أو التضاد أو أي صنعة أخرى من
__________________
(١) نهاية الايجاز ص ٧.
(٢) مفتاح العلوم ص ٢٤٣.
(٣) مفتاح العلوم ص ١٩٦.
(٤) نهاية الايجاز ص ١١٣ ، وينظر الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ٢١.
(٥) التبيان ص ١٧٧.
(٦) البقرة ٢٥٥.
(٧) الحشر ٢٤.
(٨) حسن التوسل ص ٢٤٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٣٠.
(٩) يتيمة الدهر ج ١ ص ٢١٢.