وقد أجمع البلاغيون الآخرون (١) على هذا المعنى ، وعلى أن تكون الألفاظ لائقة بالمعنى المقصود ومناسبة له. فاذا كان المعنى فخما كان اللفظ الموضوع له جزلا ، واذا كان المعنى رشيقا كان اللفظ رقيقا ، واذا كان غريبا كان اللفظ غريبا ، واذا كان متداولا كان اللفظ مألوفا.
ومثاله قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٢) فعدل سبحانه عن الطين الذي أخبر في كثير من مواضع الكتاب العزيز أنه خلق آدم منه ، منها قوله : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ)(٣) وقوله حكاية عن ابليس : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)(٤) فعدل ـ عزوجل ـ عن ذكر الطين الذي هو مجموع التراب والماء الى ذكر مجرد التراب ؛ لأنّه أدنى العنصرين وأكثفهما لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الالهية بما يصغر أمر خلقه عند من ادّعى ذلك ، فلهذا كان الاتيان بلفظة التراب أمتن بالمعنى من غيرها من العناصر ، ولو كان موضعه غيره لكان اللفظ غير مؤتلف بالمعنى المقصود. ولما أراد ـ سبحانه ـ الامتنان على بني اسرائيل بعيسى ـ عليهالسلام ـ أخبرهم عنه أنه يخلق لهم من الطين كهيئة الطير تعظيما لأمر ما يخلقه باذنه ، إذ كان المعنى المطلوب الاعتداد عليهم بخلقه ليعظموا قدر النعمة به. ومن طريف ما يتصل بهذا الفن ما جاء عن بشار فقد قيل له : إنّك لتجيء بالشيء المتفاوت ، قال : وما ذاك؟ قيل : بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك :
إذا ما غضبنا غضبة مضريّة |
هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما |
|
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة |
ذرى منبر صلّى علينا وسلّما |
تقول :
ربابة ربّة البيت |
تصبّ الخلّ في الزيت |
|
لها عشر دجاجات |
وديك حسن الصّوت |
فقال : لكل شيء وجه وموضع ، فالقول الأول جد ، وهذا قلته في جاريتي ربابة (٥). ومن ذلك قول زهير :
أثافيّ سفعا في معرّس مرجل |
ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلّم (٦) |
|
فلما عرفت الدار قلت لربعها |
ألا انعم صباحا أيّها الرّبع واسلم |
فانه لما قصد إلى تركيب البيت الأول من ألفاظ تدل على معنى عربي لكن المعنى غريب ، ركبّه من ألفاظ متوسطة بين الغرابة والاستعمال ، ولما قصد في البيت الثاني الى معنى أبين من الأول وأعرف وإن كان غريبا ركّبه من ألفاظ مستعملة معروفة.
ومن هذا الباب ملاءمة الألفاظ في نظم الكلام على مقتضى المعنى لا من مجرد جملة اللفظ ، فان الائتلاف من جهة ما تقدم من ملاءمة الغريب للغريب والمستعمل للمستعمل لا من جهة المعنى ، بل ذلك من جهة اللفظ. وأما الذي من جهة المعنى فقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(٧) ، فانه ـ سبحانه ـ لما نهى عن الركون
__________________
(١) ينظر المصباح ص ١١٣ ، وخزانة الأدب ص ٤٣٧ ، الاتقان ج ٢ ص ٨٨ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢١٧ ، نفحات ص ٣٣٢ ، شرح الكافية ص ١٨٣.
(٢) آل عمران ٥٩.
(٣) ص ٧١.
(٤) ص ٧٦.
(٥) الأغاني ج ٣ ص ١٦٢ ، أنوار الربيع ج ٦ ص ٢١٨.
(٦) الأثافي ؛ ما توضع عليه القدر وهي أحجار.
السفع ؛ السود. المرجل ؛ القدر. النؤي ؛ ما يحفر حول الخيمة ليمنع السيل. جذم الحوض ؛ أصله. يتثلم ؛ يتكسر.
(٧) هود ١١٣.