سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا على ما قدمه فاما أن يؤكّده أو يذكر سببه أو يحل الشك فيه» (١). وهذا هو الاعتراض او الرجوع ، وقد عدّه العسكري النوع الثاني من الالتفات ، أما النوع الأول فهو ما ذكره الاصمعي (٢). وبذلك يتضح أنّ الالتفات لم يكن واضحا عند قدامة والعسكري وضوحه عند المتقدمين.
ونقل الباقلاني رواية الأصمعي السابقة وعلق على بيت جرير :
متى كان الخيام بذي طلوح |
سقيت الغيث أيّتها الخيام |
بقوله : «ومعنى الالتفات أنّه اعترض في الكلام قوله : «سقيت الغيث» ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا وكان الكلام منتظما» (٣) ولذلك قال الحاتمي : «وقد سماه قوم الاعتراض» (٤) ، وقال ابن رشيق : «وهو الاعتراض عند قوم ، وسماه الآخرون الاستدراك» (٥) ، وقال الصنعاني : «ويسمى الاعتراض» ولكنه عرفه تعريف الالتفات فقال : «وهو الانصراف عن الاخبار الى المخاطبة ، وعن المخاطبة الى الاخبار». ثم قال : «وقيل الالتفات هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعدل عنه الى غيره قبل تمام الأول ثم يعود اليه فيتمه فيكون فيما عدل اليه مبالغة وزيادة حسنة» (٦) ، وهذا هو الاعتراض أو الرجوع الذي ذكره السابقون.
وتحدث عنه التبريزي في فصل مستقل في حين انه أفرد الاستدراك والرجوع بفصل آخر ، وقال عنه : «الالتفات : أن يكون الشاعر في كلام فيعدل عنه الى غيره قبل أن يتم الأول ثم يعود اليه فيتمه فيكون فيما عدل اليه مبالغة في الاول وزيادة في حسنه» (٧). ونقل البغدادي هذا التعريف (٨).
وبدأ الالتفات يأخذ معنى دقيقا بعد أن بدأت البلاغة تستقر ، وقد عرّفه الرازي بقوله : «إنّه العدول عن الغيبة الى الخطاب أو على العكس» (٩). وأدخله السكاكي في علم المعاني وقال : «إنّ هذا النوع أعني نقل الكلام عن الحكاية الى الغيبة لا يختص المسند اليه ولا هذا القدر بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها ينقل كل واحد منها الى الآخر ، ويسمّى هذا النقل التفاتا عند علماء علم المعاني. والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب الى أسلوب أدخل في القبول عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه واملأ باستدرار اصغائه» (١٠) ، وهذا ما ذكره الزمخشري من قبل (١١). وقال السكاكي إنّه قد ينتقل بالصيغة من الماضي الى المضارع (١٢) ، وذكره مرة ثالثة في البديع (١٣) وأحال الى كلامه في الموضعين السابقين ، وهذا يدل على أنّ الالتفات كان عنده من علم المعاني مرة ، ومن علم البديع تارة أخرى.
وكان كلام ابن الاثير على الالتفات مسهبا ، وهو عنده من الصناعة المعنوية قال : «وحقيقته مأخوذة من التفات الانسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا ، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنّه ينتقل فيه عن صيغة الى صيغة كالانتقال من خطاب حاضر الى غائب أو من خطاب غائب الى حاضر ، أو من فعل ماض الى مستقبل أو من مستقبل
__________________
(١) نقد الشعر ص ١٦٧ ، وينظر حسن التوسل ص ٢٢٤.
(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٩٢.
(٣) إعجاز القرآن ص ١٥٠.
(٤) حلية المحاضرة ج ١ ج ١٥٧.
(٥) العمدة ج ٢ ص ٤٥.
(٦) الرسالة العسجدية ص ١٤٦.
(٧) الوافي ص ٢٧٨.
(٨) قانون البلاغة ص ٤٤٧.
(٩) نهاية الايجاز ص ١١٢ ، الايضاح في شرح مقامات الحريري ص ١٨.
(١٠) مفتاح العلوم ص ٩٥.
(١١) الكشاف ج ١ ص ١٢.
(١٢) مفتاح العلوم ص ١١٨.
(١٣) مفتاح العلوم ص ٢٠٠.