يكون البيت صحيح المعنى مستقيم الوزن ، لا يضطر الشاعر فيه لاقامة الوزن الى اخراج المعنى عن وجه الصحة أو تقديم أو تأخير أو حذف (١)» ، وذكر أمثلة الفن السابق. ولكنّ حازما القرطاجني تحدث عن صلة الوزن بالمعنى ، أي أنّ للاعاريض اعتبارا من جهة ما تليق به من الأغراض فمنها أعاريض فخمة تصلح للفخر ، ومنها أعاريض رقيقة تصلح لاظهار الحزن ، وعلى هذا الأساس قسّم أوزان الشعر الى السّبط ، والجعد ، واللين الشديد ، والذي بين بين. ويقوم هذا التقسيم على اعتبار الحركات والسكنات ، فالسبطات هي التي تتوالى فيها ثلاثة متحركات ، والجعدة هي التي تتوالى فيها أربعة سواكن من جزءين أو ثلاثة من جزء ـ أي لا يكون بين ساكن منها وآخر إلّا حركة ـ والمعتدلة هي التي تتلاقى فيها ثلاثة سواكن من جزءين أو ساكنان في جزء ، والقوية هي التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على وتد أو سببين. والضعيفة هي التي يكون الوقوف في نهاية أجزائها على سبب واحد ويكون طرفاه قابلين للتغيير (٢). وهذه الحركات والسكنات لها ميزة في السمع وصفة أو صفات تخصه من جهة ما يوجد له رصانة في السمع أو طيش ، ومن جهة ما يوجد له سباطة وسهولة أو جعودة وتوعّر. ولما كانت أغراض الشعر مختلفة وجب أن تحاكى تلك الأغراض والمقاصد بما يناسبها من الاوزان ، وأعلى البحور درجة الطويل والبسيط ويتلوهما الوافر والكامل ، ومجال الشاعر في الكامل أفسح منه في غيره ، ويتلو ذلك الخفيف. أما المديد والرمل ففيهما ضعف ولين ، وأما المنسرح ففيه اضطراب وتقلقل ، وفي السريع والرجز كزازة ، وفي المتقارب سذاجة لتكرار أجزائه وإن كان الكلام فيه حسن الاطراد ، وفي الهزج سذاجة وحدّة ، وفي المجتث والمقتضب حلاوة قليلة على طيش فيهما ، وفي المضارع قبح ، ولذلك ينبغي أن يصاغ الشعر في الوزن الذي يلائم معناه.
ولم يتحدث البلاغيون الآخرون مثل هذا الحديث وانما تابعوا قدامة مع أنّ الفلاسفة المسلمين أشاروا الى هذه المسألة فقال الفارابي وهو يتحدث عن اليونان : «جعلوا لكل نوع من أنواع الشعر نوعا من أنواع الوزن مثل أنّ أوزان المدائح غير أوزان الأهاجي ، وأوزان الأهاجي غير أوزان المضحكات وكذلك سائرها» (٣) وقال ابن سينا : «واليونانيون كانت لهم أغراض محدودة فيما يقولون الشعر وكانوا ـ يخصون كل غرض بوزن على حدة ، وكانوا يسمون كل وزن باسم على حدة» (٤). ولعل حازما أراد أن يثبت غير ما قاله هذان الفيلسوفان حينما نسبا هذه المزية الى اليونان وحدهم فتحدث عن صلة الوزن بأغراض الشعر العربي ، أو «ائتلاف الوزن مع المعنى» ، ولكنه لم يفصّل القول في ذلك وظل بعيدا عن كشف أسرار هذا الائتلاف ، وظل البلاغيون الآخرون مرتبطين بما قاله قدامة في هذا الفن.
الابتداء :
ذكر البلاغيون أنّ الأديب ينبغي أن يتأنّق في ثلاثة مواضع من كلامه حتى يكون أعذب لفظا ، وأحسن سبكا ، وأصحّ معنى. وهذه المواضع هي : الابتداء ، والتخلص ، والانتهاء.
والابتداء أن يكون مطلع الكلام شعرا أو نثرا ، أنيقا بديعا ، لأنّه أول ما يقرع السمع فيقبل السامع على الكلام ويعيه ، وإن كان بخلاف ذلك أعرض عنه ورفضه وإن كان في غاية الحسن. وقد استحسن القدماء مطلع النابغة الذبياني :
كليني لهمّ يا أميمة ناصب |
وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
__________________
(١) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٢٧.
(٢) منهاج البلغاء ص ٢٦٠.
(٣) رسالة في قوانين صناعة الشعراء (فن الشعر) ص ١٥٢.
(٤) كتاب المجموع ص ٣٠.