فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)(١) فقوله :(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) من جوامع الكلم التي يستدل على قلتها بالمعاني الكثيرة أي : غشيهم من الأمور الهائلة والخطوب الفادحة ما لا يعلم كنهه إلا الله ولا يحيط به غيره. ومنه قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)(٢) فجمع في الآية جميع مكارم الاخلاق ؛ لأنّ في الأمر بالمعروف صلة الرحم ومنع اللسان عن الغيبة وعن الكذب وغض الطرف عن المحرمات وغير ذلك ، وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وغيرهما.
ومن ذلك قول السموأل :
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها |
فليس الى حسن الثناء سبيل |
فانّ هذا البيت قد اشتمل على مكارم الأخلاق جميعها من سماحة وشجاعة وعفة وتواضع وحلم وصبر وغير ذلك ، فانّ هذه الأخلاق كلّها من ضيم النفس ؛ لأنّها تجد بحملها ضيما أي مشقة وعناءا.
الثاني : ما دلّ لفظه على محتملات متعددة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها بل يستحيل ذلك ، وهو أعلى طبقات الايجاز. ومنه قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(٣) الذي فاق كل كلام وفضل غيره من كلام العرب (٤).
الايداع :
استودعه مالا وأودعه إياه : دفعه اليه ليكون عنده وديعة ، وأودعه قبل منه الوديعة ، وقد جاء به الكسائي في باب الأضداد (٥). وقال المدني : «الايداع في اللغة مصدر أودعته مالا إذا دفعته اليه ليكون عنده وديعة ، وأودعته أيضا إذا أخذته منه وديعة فيكون من الأضداد لكنه بمعنى الأول أشهر ، والثاني بالمعنى الاصطلاحي أنسب» (٦).
وقال المصري : «هو أن يعمد الشاعر أو المتكلم الى نصف بيت لغيره يودعنه شعره سواء أكان صدرا أو عجزا ، وأما الناثر فان أتى في نثره بنصف بيت لغيره سمّي ايداعا ، وإن كان لنفسه سمّي تفصيلا» (٧). وقال إنّ من لا يعرف الاصطلاح يسميه تضمينا ، وفرق بينهما وبين الاستعانة بقوله : «إنّ التضمين يقع في النظم والنثر ويكون من المحاسن ومن العيوب ولكنه لا يكون من العيوب إلا اذا وقع في النظم بالنظم ، والايداع والاستعانة وإن وقعا معا في النظم والنثر فلا يكونان إلا بالنظم دون النثر» (٨).
وقال الحلبي : «وأكثر الناس يجعلونه من باب التضمين وهو منه إلا أنّه مخصوص بالنثر وبأن يكون المودع نصف بيت إما صدرا وإما عجزا» (٩). وذكر النويري هذا التعريف أيضا (١٠).
وقال الحموي : «الايداع الذي نحن بصدده هو أن يودع الناظم شعره بيتا من شعر غيره أو نصف بيت أو ربع بيت بعد أن يوطىء له توطئة تناسبه بروابط متلائمة بحيث يظن السامع أنّ البيت بأجمعه له. وأحسن الايداع ما صرف عن معنى غرض الناظم الأول
__________________
(١) طه ٧٧ ـ ٧٩.
(٢) الاعراف ١٩٩.
(٣) البقرة ١٧٩.
(٤) كتاب الصناعتين ص ١٧٥ ، الرسالة العسجدية ص ٨٨ ، ٩٤ ، الجامع الكبير ص ١٤٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٥ ، الايضاح ص ١٨٢ ، شروح التلخيص ج ٣ ص ١٨٣ ، المطول ص ٢٨٦ ، الاطول ج ٢ ص ٣٥ ، معترك ج ١ ص ٢٩٥ ، الاتقان ج ٢ ص ٥٤ ، شرح عقود الجمان ص ٦٩.
(٥) اللسان (ودع).
(٦) أنوار الربيع ج ٦ ص ٧٣.
(٧) تحرير التحبير ص ٣٨٠.
(٨) تحرير ص ١٤٢.
(٩) حسن التوسل ص ٢٩٥.
(١٠) نهاية الارب ج ٧ ص ١٦٤.