ضمائر قلوبهم» (١).
براعة الاستهلال :
البراعة هي التفوق ، والاستهلال الافتتاح والابتداء ، فاستهل : رأى الهلال ، واستهل المولود صاح في أول زمان الولادة واستهلت السماء جادت بالهلل وهو أول المطر. قال المدني : «وكل من هذه المعاني مناسب للنقل منه الى المعنى الاصطلاحي وإن خصه بعضهم بالنقل من المعنى الثاني.
وإنّما سمي هذا النوع الاستهلال لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به» (٢).
وكان الجاحظ قد نقل عن ابن المقفع قوله : «ليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك ، كما أنّ خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته» (٣) وقال الجاحظ : «كأنه يقول فرّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة التواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه ، فانّه لا خير في كلام لا يدلّ على معناك ولا يشير الى مغزاك ، والى العمود الذي اليه قصدت ، والغرض الذي اليه نزعت».
وكانت هذه إشارة الى الاهتمام بمثل ذلك في النثر والشعر ، ولذلك قال ابن جني : «إذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده الى ما جاء بالرسالة من أجله» (٤).
وعقد الكلاعي فصلا سماه «الاشارة في الصدور الى الغرض المذكور» (٥).
وذكر ابن المعتز فنا في محاسن الكلام سماه «حسن الابتداءات» (٦) وقال الحموي عن هذه التسمية : «وفي هذه التسمية تنبيه على تحسين المطالع وإن أخلّ الناظم بهذه الشروط لم يأت بشيء من حسن الابتداء» (٧).
وقد فرّع المتأخرون من هذه التسمية «براعة الاستهلال» وهي كما قال التبريزي : «أن يبتدىء بما يدل على غرضه» (٨) ، كقول الخنساء في أخيها :
وما بلغت كفّ امرىء متناولا |
من المجد إلا والذي نلت أطول |
|
وما بلغ المهدون للناس مدحة |
وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل |
ودخل الأخطل على معاوية فقال : إني مدحتك فاسمع. فقال : إن كنت شبهتني بالحية والصقر فلا حاجة لي فيه ، وإن كنت قلت كما قالت الخنساء في أخيها ، وأنشد البيتين فهات. فأنشده الأخطل :
إذا متّ مات الجود وانقطع الندى |
ولم يبق إلّا من قليل مصرّد |
فقال له معاوية : «ما زدت على أن نعيت اليّ نفسي».
وقال البغدادي : «وأما براعة الاستهلال فهي من ضروب الصنعة التي يقدمها أمراء الكلام ونقاد الشعر وجهابذة الألفاظ ، فينبغي للشاعر إذا ابتدأ قصيدة مدحا أو ذما أو فخرا أو وصفا أو غير ذلك من أفانين الشعر ابتدأها بما يدل على غرضه فيها ، كذلك الخطيب إذا ارتجل خطبة ، والبليغ إذا افتتح رسالة فمن سبله أن يكون ابتداء كلامه دالا على انتهائه وأوله ملخصا بآخره» (٩) ، وذكر أمثلة التبريزي.
ويتضح مما قاله المتقدمون أنّ براعة الاستهلال هي «ابتداء المتكلم بمعنى ما يريد تكميله وإن وقع في اثناء القصيدة» (١٠) ولذلك فرّق المصري بين أمثلتها وأمثلة حسن الابتداءات فقال بعد أن ذكر
__________________
(١) دلائل الاعجاز ص ٣٥.
(٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٦.
(٣) البيان ج ١ ص ١١٦.
(٤) إحكام صنعة الكلام ج ١ ص ١١٦.
(٥) إحكام صنعة الكلام ص ٦٦ وما بعدها.
(٦) البديع ص ٧٥.
(٧) خزانة الأدب ص ٣.
(٨) الوافي ص ٢٨٤.
(٩) قانون البلاغة ص ٤٥٠.
(١٠) تحرير التحبير ص ١٦٨.