وسمّاه الحموي براعة الاستهلال وقال وهو يتحدث عن حسن الابتداء «وقد فرّع المتأخرون منه براعة الاستهلال في النظم والنثر وفيها زيادة على حسن الابتداء فانّهم شرطوا في براعة الاستهلال أن يكون مطلع القصيدة دالا على ما بنيت عليه مشعرا بغرض الناظم من غير تصريح بل باشارة لطيفة تعذب حلاوتها في الذوق السليم ويستدل بها على مقصده من عتب أو عذر أو تنصل أو تهنئة أو مدح أو هجو وكذلك في النثر. فاذا جمع الناظم بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان من فرسان هذا الميدان وإن لم يحصل له براعة الاستهلال فليجتهد في سلوك ما يقوله في حسن الابتداء. وما سمي هذا النوع براعة استهلال إلا لأنّ المتكلم يفهم غرضه من كلامه عند ابتداء رفع صوته به. ورفع الصوت في اللغة هو الاستهلال ، يقال : استهل المولود صارخا إذا رفع صوته عند الولادة وأهل الحجيج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية ، وسمي الهلال هلالا لأنّ الناس يرفعون أصواتهم عند رؤيته» (١).
ومما وقع من براعات الاستهلال التي تشعر بغرض الناظم وقصده في قصيده براعة قصيدة الفقيه نجم الدين عمارة اليمني حيث قال :
إذا لم يسالمك الزمان فحارب |
وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب |
فاشارات العتب والشكوى لا تخفى على أهل الذوق في هذه البراعة ، ويفهم منها أنّ بقية القصيدة تعرب عن ذلك.
ومن ألطف البراعات وأحشمها براعة مهيار الديلمي فانه بلغه أنّه وشي به الى ممدوحه فتنصل من ذلك بألطف عذر وأبرزه في معرض التغزل والنسيب فقال :
أما وهواها حلفة وتنصّلا |
لقد نقل الواشي الواشي اليك فأمحلا |
وما أحلى ما قال بعده :
سعى جهده لكن تجاوز حدّه |
وكثّر فارتابت ولو شاء قلّلا |
ولم يخرج المدني على ما قاله المتقدمون ولا سيما الحموي ، قال : «واعلم أنّ المتأخرين فرّعوا على حسن الابتداء براعة الاستهلال ، وهو أن يكون أول الكلام دالا على ما يناسب حال المتكلم متضمنا لما سبق الكلام لأجله من غير تصريح بل بألطف اشارة يدركها الذوق السليم» (٢). ثم قال : «اذا علمت ذلك فاعلم أنّ براعة الاستهلال في مطلع القصيدة هو كونه دالا على بنيت عليه من مدح أو هجاء أو تهنئة أو عتب أو غير ذلك. فاذا جمع المطلع بين حسن الابتداء وبراعة الاستهلال كان هو الغاية التي لا يدركها إلا مصلّي هذه الحلبة والحالب من أشطر البلاغة أوفر حلبه» (٣).
براعة التّخلّص :
هو التخلص وحسن التخلص ، ويراد به حسن الانتقال من غرض الى آخر في القصيدة ، ولم يكن القدماء يعنون بالتخلص وانما هو من حسنات المحدثين أو كما قال ابن طباطبا : «ما أبدعه المحدثون من الشعراء دون من تقدمهم ، لان مذهب الاوائل في ذلك واحد وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق وحكاية ما عانوه في أسفارهم : انا تجشمنا ذلك الى فلان يعنون الممدوح كقول الأعشى :
الى هوذة الوهاب أزجي مطيتي |
أرجّي عطاء صالحا من نوالكا (٤) |
وكانوا يقولون عند الانتقال «دع ذا» و «عدّ عن ذا» ، قال الباقلاني : «ألا ترى أنّ كثيرا من الشعراء وقد وصف
__________________
(١) خزانة الأدب ص ٨.
(٢) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٣.
(٣) أنوار الربيع ج ١ ص ٥٦.
(٤) عيار الشعر ص ١١١.