وأما الضرب الثاني وهو الذي يحتذى فيه على مثال سابق ومنهج مطروق فذلك جلّ ما يستعمله مؤلفو الكلام ، ولذلك قال عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم |
أم هل عرفت الدار بعد توهّم (١) |
ولكن قول من قال : «لم يترك المتقدم للمتأخر شيئا» لا يؤخذ به ؛ لأنّ في كل زمان جديدا وفي كل عصر بديعا.
وقال المصري : «هو أن تكون مفردات كلمات البيت من الشعر أو الفصل من النثر أو الجملة المفيدة متضمنة بديعا بحيث تأتي في البيت الواحد والقرينة الواحدة عدة ضروب من البديع بحسب عدد كلماته أو جملته ، وربما كان في الكلمة الواحدة المفردة ضربان فصاعدا من البديع ومتى لم تكن كل كلمة بهذه المثابة فليس بابداع» (٢). واستخرج أحدا وعشرين ضربا من المحاسن في قوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٣). ومن هذه الفنون : المناسبة والمطابقة والاستعارة والتمثيل والارداف والتعليل وصحة التقسيم (٤).
وقال السبكي : «هو ما يبتدع عند الحوادث المتجددة كالامثال التي تخترع وتضرب عند الوقائع» (٥) ، وهذا ما أفاض في الحديث عنه ابن الأثير عند ما تكلم على المعاني.
وذكر السيوطي أنّ الطيّبي سمّى هذا الفن إبداعا ، وسماه أهل البديعيات «سلامة الاختراع» (٦) ، ولكن تعريفهم للأخير يخرجه من الأول الذي عرّفه المصري ومن سار على نهجة تعريفا يختلف عن تعريف سلامة الاختراع ، قال المدني : «هذا النوع عبارة عن أن يخترع الشاعر معنى لم يسبق اليه ، وسماه بعضهم الابداع وهو اسم مطابق للمسمى غير أنّ أصحاب البديعيات وكثيرا من علماء البديع اصطلحوا على جعل الابداع اسما للاتيان في البيت الواحد والفقرة الواحدة بعدة أنواع من البديع ، وسمّوا هذا النوع بسلامة الاختراع ، ولكل ما اصطلح» (٧).
فالابداع عند بعضهم هو سلامة الاختراع ، والابداع عند آخرين هو أن يكون البيت من الشعر أو الفصل من النثر مشتملا على عدة ضروب من البديع وهو ما ذهب اليه المصري وتبعه فيه أصحاب البديعيات ، ولذلك كان للابداع وسلامة الاختراع تعريفان مختلفان عندهم وإن ذهب المدني الى ان «الابداع» اسم مطابق للمسمى ، غير أنّه خصّ بضروب البديع ، وخص سلامة الاختراع بالمعنى الجديد.
الإبدال :
الابدال من «أبدل» وأبدل الشي وبدّله : تخذه منه بدلا ، وأبدلت الشي بغيره وبدّله الله من الخوف أمنا ، وتبديل الشيء : تغييره ، وان لم تأت ببدل (٨).
وقد أدخله المتأخرون في فنون البديع وقالوا في تعريفه إنّه «إقامة بعض الحروف مقام بعض» ، وجعل منه ابن فارس «فانفلق» أي : فانفرق ، ولذلك قال تعالى : (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)(٩). وعن
__________________
(١) المثل السائر ج ١ ص ٣١٢.
(٢) تحرير التحبير ص ٦١١ ، بديع القرآن ص ٣٤٠.
(٣) هود ٤٤.
(٤) السابقان وحسن التوسل ص ٣١٣ ، نهاية الارب ج ٧ ص ١٧٥ ، جوهر الكنز ص ٢٣١ ، خزانة الادب ص ٣٧٠ ، الاتقان ج ٢ ص ٩٦ ، معترك الاقران ج ١ ص ٤١٩ ، أنوار الربيع ج ٥ ص ٣٢٨ ، نفحات الأزهار ص ٢١٢.
(٥) عروس الافراح ج ٤ ص ٤٧٣.
(٦) شرح عقود الجمان ص ١٦٣ ، التبيان في البيان ص ٢٤٩ ، شرح الكافية ص ٢٩٢.
(٧) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٠٤.
(٨) اللسان (بدل).
(٩) الشعراء ٦٣.