تأكيد المدح بما يشبه الذّمّ :
هذا الفن من الأساليب القديمة في الشعر العربي ، ومن ذلك قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم |
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
وقد قال الحاتمي عن هذا الفن الذي سماه «استثناء وتأكيدا للمدح بما يشبه الذم» : «وأحسب أنّ أول من بدأ به النابغة فأحسن كل الاحسان في قوله : «ولا عيب ...» (١).
ومن المتقدمين الذين ذكروه سيبويه الذي قال في باب «ما لا يكون إلا على معنى ولكن» تعليقا على البيت : «أي : ولكن بهن فلول». وقال النابغة الجعدي :
فتى كملت أخلاقه غير أنّه |
جواد فلا يبقي من المال باقيا |
كأنه قال : ولكنّه مع ذلك جواد. ومثل ذلك قول الفرزدق :
وما سجنوني غير أنّي ابن غالب |
وأنّي من الأثرين غير الزعانف |
كأنه قال : ولكني ابن غالب ، ومثل ذلك في الشعر كثير» (٢).
وسماه ابن المعتز «تأكيد المدح بما يشبه الذم» وهو من محاسن الكلام ، ومثل له ببيتي النابغتين (٣).
وسماه العسكري «الاستثناء» (٤) ، وأطلق عليه ابن منقذ اسم «الرجوع والاستثناء» (٥) ، وهو ليس كذلك عند المصري الذي قال : «وقد خلط المتأخرون باب الاستثناء بهذا الباب وكنت أرى أنّهما باب واحد الى أن نبهني عليه عند قراءته من ألّفت له هذا الكتاب فرأيت إفراده منه» (٦) وسماه المدني «المدح في معرض الذم» وسماه آخرون «النفي والجحود» (٧).
وتناوله البلاغيون بعد ذلك بالدراسة (٨) وأدخله السكاكي في التحسين المعنوي (٩) ، وتحدث عنه العلوي في التوجيه وقال : «هو أن يكون الكلام له وجهان» (١٠) وذكر أنه يرد في البلاغة على استعمالين :
الأول : أن يؤكد المدح بما يكون مشبها للذم بأن تنفى عن الممدوح وصفا معينا ثم تعقبه بالاستثناء فتوهم أنّك استثنيت ما يذم به فتأتي بما من شأنه أن يذم به وفيه المبالغة في مدح الممدوح. ومنه قول النابغة الذبياني المتقدم ، وقول ابن الرومي :
وما تعتريها آفة بشرية |
من النوم إلّا أنّها تتخير |
|
كذلك أنفاس الرياض بسحرة |
تطيب وأنفاس الأنام تغيّر |
وقول الآخر :
ولا عيب فينا غير أنّ سماحنا |
أضرّ بنا والناس من كلّ جانب |
|
فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم |
وأفنى الندى أموالنا غير غاصب |
|
أبونا أب لو كان للناس كلّهم |
أبا واحدا أغناهم بالمناقب |
الثاني : أن يمدح شيء يقتضي المدح بشيء آخر كقول المتنبي :
نهبت من الأعمار ما لو حويته |
لهنّئت الدنيا بأنّك خالد |
فأول البيت دال على المدح بالشجاعة وآخره دالّ
__________________
(١) حلية المحاضرة ج ١ ص ١٦٢.
(٢) الكتاب ج ٢ ص ٣٢٦.
(٣) البديع ص ٦٢.
(٤) كتاب الصناعتين ص ٤٠٨.
(٥) البديع في نقد الشعر ص ١٢٠.
(٦) تحرير التحبير ص ١٣٣.
(٧) أنوار الربيع ج ٦ ص ٢٧.
(٨) قانون البلاغة ص ٤٥٠ ، الكشاف ج ٢ ص ٥٣٥ ، نهاية الايجاز ص ١١٤.
(٩) مفتاح العلوم ص ٢٠٢.
(١٠) الطراز ج ٣ ص ١٣٦.