الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الايمان يوهم بأن يأتي بعد الاستثناء ما يجب أن ينقم على فاعله مما يذم به فلما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مدح فاعله كان الكلام متضمّنا تأكيد المدح بما يشبه الذم» (١).
وقال السيوطي : «ونظيرها قوله : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ)(٢). وقوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)(٣) ، فانّ ظاهر الاستثناء أنّ ما بعده حق يقتضي الاخراج فلما كان صفة مدح تقتضي الإكرام لا الاخراج كان تأكيدا للمدح بما يشبه الذم. وجعل منه التنوخيّ في «الأقصى القريب» : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً)(٤) استثنى (سَلاماً سَلاماً) الذي هو ضد اللغو والتأثيم فكان ذلك مؤكدا لانتفاء اللغو والتأثيم» (٥).
التّأليف :
هو الائتلاف والتلفيق والتناسب والتوفيق ومراعاة النظير ، قال السبكي : «وكان الأحسن تسميته التأليف لموافقة التوفيق» (٦). وقال القزويني : «ومنه ـ أي المحسنات المعنوية ـ مراعاة النظير وتسمى التناسب والائتلاف والتوفيق أيضا. وهي أن يجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه لا بالتضاد» (٧). كقوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ)(٨).
ومنه قول أسيد بن عنقاء :
كأنّ الثريا علّقت في جبينه |
وفي خدّه الشّعرى وفي وجهه القمر (٩) |
وقول البحتري في صفة الابل الأنضاء :
كالقسيّ المعطّفات بل الأس |
هم مبرية بل الأوتار (١٠) |
وقول ابن رشيق :
أصحّ وأقوى ما سمعناه في النّدى |
من الخبر المأثور منذ قديم |
|
أحاديث ترويها السيول عن الحيا |
عن البحر عن كفّ الأمير تميم (١١) |
فانّه ناسب فيه بين الصحة والقوة والسماع والخبر المأثور والأحاديث والرواية ، ثم بين السيل والحيا والبحر وكف تميم مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث فإنّ السيول أصلها المطر ، والمطر أصله البحر ، ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة.
ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم «تشابه الاطراف» وهو «أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى» (١٢). كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(١٣) ، فان اللطيف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا فإنّ من يدرك شيئا يكون خبيرا به. وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ
__________________
(١) بديع القرآن ص ٥٠.
(٢) التوبة ٧٤.
(٣) الحج ٤٠.
(٤) الواقعة ٢٥ ـ ٢٦.
(٥) معترك الأقران ج ١ ص ٣٩٣.
(٦) عروس الافراح ج ٤ ص ٣٠١.
(٧) الايضاح ص ٣٤٣ ، التلخيص ص ٣٥٤ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٠١ ، المطول ص ٤٢٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٨٧.
(٨) الرحمن ٥.
(٩) الثريا : اسم لجماعة من الكواكب سبع.
الشعرى : كوكب آخر.
(١٠) النضو : الهزيل : القسي : جمع قوس.
المعطفات : المحمية. المبرية : المنحوتة.
(١١) الحيا : المطر. الامير تميم : هو ابن المعز بن باديس من أمراء الدولة الزيرية أو الصنهاجية.
(١٢) الايضاح ص ٣٤٤ ، التلخيص ص ٣٥٤ ، شروح التلخيص ج ٤ ص ٣٠٣ ، المطول ص ٤٢٠ ، الاطول ج ٢ ص ١٨٨.
(١٣) الأنعام ١٠٣.