عليه وسلم ـ يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والاهانة ويظهرون به التوقير والاكرام. ليا بألسنتهم : فتلا بها وتحريفا ، أي يفتلون بألسنتهم الحق الى الباطل حيث يضعون «راعنا» موضع «انظرنا» و «غير مسمع» موضع : لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بالسنتهم ما يضمرونه من الشتم الى ما يظهرونه من التوقير نفاقا.
فان قلت : كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا وقالوا : سمعنا وعصينا؟
قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ، ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به» (١).
ومنه قول النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد ذكر عنده سريح بن الحضرمي وهو من الصحابة : «ذاك رجل لا يتوسّد القرآن» فيحتمل وجهين ذكرهما ثعلب عن ابن الأعرابي : أحدهما : المدح وهو انه لا ينام الليل حتى يتوسد القرآن معه فيكون مدحا.
والثاني : الذم وهو انه ينام ولا يتوسده معه أي لا يحفظه فيكون ذما.
ومن أمثلة الابهام قول محمد بن حازم الباهلي في الحسن بن سهل حين تزوج المأمون بابنته بوران :
بارك الله للحسن |
ولبوران في الختن |
|
يا ابن هرون قد ظفر |
ت ولكن ببنت من |
فلا يعلم ما أراد بـ «بنت من» في الرفعة أو في الحقارة ، ولما نمي هذا الشعر الى المأمون قال : «والله ما ندري أخيرا أراد أم شرا؟».
ومن ذلك قول الشاعر :
ويرغب أن يبني المعالي خالد |
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم |
فان هذا يحتمل المدح والذم لانه إن قدّر «في» أولا و «عن» ثانيا فمدح وإن عكس فذم إذ يقال : رغب فيه ورغب عنه.
ومنه قول المتنبي في مدح كافور :
ويغنيك عما ينسب الناس أنه |
اليك تناهى المكرمات وتنسب |
فقد يريد به المدح ، أو السخرية أي : انه لا نسب لكافور.
وقوله :
وما طربي لما رأيتك بدعة |
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب |
فقد يحتمل السخرية والاستهزاء ، أو المدح.
وقوله :
وغير كثير أن يزورك راجل |
فيرجع ملكا للعراقيين واليا |
فظاهر البيت أنّ من رأى كافورا أفاد منه كسب المعالي ، وباطنه أنّ من رآه على ما به من النقص وقد صار الى الملك ضاق صدره أن يقصر عما بلغه وأن لا يتجاوز ذلك الى كسب المكارم ، وكذلك إذا رآه راجل لا يستكثر لنفسه أن يرجع واليا على العراقين.
والابهام فن بديع متسع الباب ، والأديب البارع يقدر أن ينزع فيه مذاهب مختلفة ، ويفتح أبوابا موصدة.
الاتّساع :
قال ابن رشيق : «هو أن يقول الشاعر بيتا يتسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بمعنى وانما يقع ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى» (٢).
وقال المصري : «هو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه
__________________
(١) الكشاف ج ١ ص ٤٠٠.
(٢) العمدة ج ٢ ص ٩٣ ، وينظر المنزع البديع ص ٤٢٩.