٢٣ ـ إنّ الشفع الروح والجسد إذا كانا معا ، والوتر الروح بلا جسد ، فكأنه ـ تعالى ـ أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق.
ومن الاتساع فواتح السور المشتملة على حروف التهجي ، فانّ التأويل فيها متسع أيضا.
ومن أمثلته الشعرية قول امرئ القيس :
مكر مفر مقبل مدبر معا |
كجلمود صخر حطّه السيل من عل |
فانه أراد أنّه يصلح للكر والفر ويحسن مقبلا مدبرا ، ثم قال «معا» أي جميع ذلك فيه وشبهه في سرعته وشدة جريه بجلمود صخر حطه السيل من أعلى الجبل ، فاذا انحط من عال كان شديد السرعة فكيف اذا أعانته قوة السيل من ورائه. وذهب قوم الى أنّ معنى قوله : «كجلمود صخر حطّه السيل من عل» انما هو الصلابة ؛ لان الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس والريح كان أصلب. وقال بعضهم : إنّما أراد الافراط فزعم أنّه يرى مقبلا ومدبرا في حال واحدة عند الكر والفر لشدة سرعته واعترض على نفسه واحتج بما يوجد عيانا فمثّله بالجلمود المنحدر من قنة الجبل ، فانك ترى ظهره في النصبة على الحال التي ترى فيها بطنه وهو مقبل اليك. وقال ابن رشيق بعد هذه التفسيرات : «ولعل هذا ما مرّ ببال امرئ القيس ، ولا خطر في وهمه ، ولا وقع في خلده ولا روعه» (١). وقال المصري أيضا : «ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل ، وانما الكلام إذا كان قويا من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوها من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه ولذلك قال الاصمعي : «خير الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة» (٢).
ومنه قول الحماسي :
بيض مفارقنا تغلي مراجلنا |
نأسوا بأموالنا آثار أيدينا |
فانّ التأويل اتسع في قوله : «بيض مفارقنا» فقيل : أراد بذلك الطهارة والعفاف ، كقولهم : أبيض العرض والشيم والحسب. وقيل : أراد أنّهم كهول ومشايخ قد حنكهم التجارب وليسوا بالاغمار ، وقيل : أراد أنّهم ليسوا بعبيد لأنّ فرق الانسان اذا كان أبيض كان جميع جسده أبيض. وقيل : انحسار الشعر عن مقدم رؤوسهم لمداومتهم لبس البيض والمغافر. وقيل :معناه نحن كرام نكثر استعمال الطيب فابيضت مفارقنا لذلك. وقيل : نحن مكشوفو الرؤوس لا عيب فينا فعبّر عن النقاء بالبياض.
ومن ذلك قول المتنبي يذكر الروم :
وقد بردت فوق اللقان دماؤهم |
ونحن أناس نتبع البارد السّخنا (٣) |
أراد : أنّا نتبع البارد من الدماء سخنا ، كأنه يتوعدهم بقتل آخر ، فيكون قد أخذه من قول سويد بن كراع يصف كلابا وثورا :
فهزّ عليه الموت والموت دونه |
على روقه منه مذاب وجامد (٤) |
ويعني بالمذاب الحار ، وبالجامد البارد ، ويجوز أن يكون المتنبي أراد : ونحن أناس نتبع البارد من الطعام سخنا ، وكذلك أيضا عادتنا في الدماء.
اتّساق البناء :
يقال : وسق الليل واتّسق أي انضم ، والطريق يأتسق ويتسق : ينضم ، واتسق القمر : استوى ، واتساق القمر : امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة ، وقال الفراء : الى ست عشرة فيهن امتلاؤه واتساقه (٥).
__________________
(١) العمدة ج ٢ ص ٩٣.
(٢) تحرير التحبير ص ٤٥٥.
(٣) اللقان موضع ببلاد الروم.
(٤) روقه ؛ قرنه.
(٥) اللسان (وسق).