وعزّى سلمة وأشباههم. وكانوا يتكهنون ويحكمون بالأسجاع» (١) وعلل ذلك النهي بقوله : «فوقع النهي في ذلك الدهر لقرب عهدهم بالجاهلية ولبقيتها في صدور كثير منهم ، فلما زالت العلة زال التحريم. وقد كانت الخطباء تتكلم عند الخلفاء الراشدين فيكون في تلك الخطب أسجاع كثيرة فلا ينهونهم» (٢). وقال ابن وهب إنّ الرسول الكريم أنكر ذلك لأنّ المتكلم أتى به في بعض كلامه ومنطقه وكان ذلك على سجية الانسان وطبعه فهو غير منكر ولا مكروه بل أتى في الحديث الشريف (٣). ونطق به ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في بعض كلامه حتى أنّه غيّر الكلمة عن وجهها اتباعا لها باخواتها في السجع فقال لابن ابنته : «أعيذه من الهامّة والسامّة وكل عين لامّة» ، وإنّما أراد «ملمة» لأنّ الأصل فيها من «ألمّ فهو ملمّ». ورأى ابن الاثير أنّ الرسول العظيم لم يذم السجع كله وانما ذمّ ما كان مثل سجع الكهان لا غير ، وقد ورد في القرآن الكريم.
وعلل ذم بعضهم للسجع بقوله : «وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة ، ولا أرى لذلك وجها سوى عجزهم أن يأتوا به ، وإلا فلو كان كان مذموما لما ورد في القرآن الكريم فانه قد أتى منه بالكثير حتى ليؤتى بالسورة جميعها مسجوعة كسورة الرحمن وسورة القمر وغيرهما. وبالجملة فلم تخل منه سورة من السور» (٤). وقال الكلاعي : «والذي عندي في هذا أنّ النثر والنظم أخوان فكما لا يقدح في النظم تكلف الوزن والقافية ، كذلك لا يقدح في النثر تكلف السجع» (٥).
وقسّم ابن الاثير التسجيع أو السجع الى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يكون الفصلان متساويين لا يزيد أحدهما على الآخر ، كقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ)(٦).
الثاني : أن يكون الفصل الثاني أطول من الأول كقوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً)(٧).
الثالث : أن يكون الفصل الآخر أقصر من الأول ، وهو عند ابن الاثير عيب فاحش ، وذلك أنّ السجع يكون قد استوفى أمده من الفصل الأول بحكم طوله ثم يجيء الفصل الثاني قصيرا عن الأول فيكون كالشيء المبتور فيبقى الانسان عند سماعه كمن يريد الانتهاء الى غاية فيعثر دونها.
ثم قسّمه على اختلاف أنواعه الى نوعين :
الأول : القصير ، وهو أن تكون كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة وكلّما قلّت الألفاظ كان أحسن لقرب الفواصل المسجوعة من سمع السامع. وهذا الضرب أوعر السجع مذهبا وأبعده متناولا ولا يكاد استعماله يجيء إلا نادرا.
الثاني : الطويل ، وهو ضد الأول لأنّه أسهل متناولا (٨).
وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عده ألفاظ ، أما السجع القصير فأحسنه ما كان مؤلفا من لفظتين لفظتين كقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً)(٩). ومنه ما يكون مؤلفا من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة ، وكذلك الى العشرة. وأمّا السجع الطويل فانّ درجاته تتفاوت أيضا في الطول فمنه ما يقرب من السجع القصير وهو أن يكون
__________________
(١) البيان ج ١ ص ٢٨٩.
(٢) البيان ج ١ ص ٢٩٠.
(٣) البرهان ص ٢٠٩.
(٤) المثل السائر ج ١ ص ١٩٣.
(٥) إحكام صنعة الكلام ص ٢٣٦.
(٦) الضحى ٩ ـ ١٠.
(٧) الفرقان ١١ ـ ١٣.
(٨) المثل السائر ج ١ ص ٢٣٨ ، الجامع الكبير ص ٢٥٣.
(٩) المرسلات ١ ـ ٢.