كأنّ الهمّ مشغوف بقلبي |
فساعة هجرها يجد الوصالا (١) |
التّشبيه المعكوس :
هو التشبيه المقلوب والمنعكس ، وذلك بأن يجعل فيه المشبه مشبها به ويجعل المشبه به مشبها ، كقول البحتري :
في طلعة البدر شيء من محاسنها |
وللقضيب نصيب من تثنّيها |
وقول ابن المعتز :
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا |
مثل القلامة إذ قصّت من الظّفر |
وقال الحلبي والنّويري : «التشبيه المعكوس وهو أن تشبه شيئين كل واحد منهما بالآخر» (٢). وليس في هذا التعريف بيان ، وقد أحسن السابقون في إيضاحه ، فابن جني سماه «غلبة الفروع على الأصول» وقال : «هذا فصل من فصول العربية تجده في معاني العرب كما تجده في معاني الأعراب ولا تكاد تجد شيئا من ذلك إلا والغرض فيه المبالغة (٣). وسمّاه ابن الاثير «الطرد والعكس» وقال : إنّ الغرض منه المبالغة وهو موضع من علم البيان حسن الموقع لطيف المأخذ (٤). وسماه العلوي «التشبيه المنعكس» وقال : «اعلم أنّ هذا النوع من التشبيه يرد على العكس والندور وبابه الواسع هو الاطّراد. وإنّما لقب بالمنعكس لما كان جاريا على خلاف العادة والالف في مجاري التشبيه وقد يقال له «غلبة الفروع على الأصول». وكل هذه الالقاب دالة على خروجه عن المقياس المطرد والمهيع المستمر ، وله موقع عظيم في إفادة البلاغة. وقد ذكره ابن الاثير في كتابه «المثل السائر» وقرره ابن جني في كتاب «الخصائص». والشرط في استعماله أن لا يرد إلا فيما كان متعارفا حتى تظهر في صورة الانعكاس لأنّه لو ورد في غير المتعارف لكان قبيحا ؛ لأنّ مطرد العادة في البلاغة على تشبيه الأدنى فاذا جاء على خلاف ذلك فهو معكوس» (٥).
والعلوي هنا قرر ما تعارف عليه البلاغيون من أنّ المشبه به ينبغي أن يكون الأصل وهو الأقوى والأوضح ولكنّ الشاعر قد يخرج على هذه القاعدة وهو يصوّر معانيه فيأتي بالتشبيهات التي لا تجري على ما قرره البلاغيون ، وفي ذلك إثراء لهذا الفن. وقد وقف عبد القاهر عند هذا اللون وقال إنّه يفتح بابا الى «دقائق وحقائق» وذلك بجعل «الفرع أصلا والأصل فرعا» (٦) ، وهو كثير في التشبيهات الصريحة وذلك «أنّهم يشبهون الشيء فيها بالشيء في حال ثم يعطفون على الثاني فيشبهونه بالأول فترى الشيء مشبها مرة ومشبها به أخرى» ومن أظهر ذلك قولهم في النجوم «كأنها مصابيح» ثم قولهم في المصابيح «كأنها نجوم» وتشبيه العيون بالنرجس ثم تشبيه النرجس بالعيون كقول أبي نواس :
لدى نرجس غضّ القطاف كأنّه |
إذا ما منحناه العيون عيون |
وتشبيه الثغر بالأقاحي ثم تشبيهها بالثغر كقول ابن المعتز :
والأقحوان كالثنايا الغرّ |
قد صقلت أنواره بالقطر |
وتشبيه أنوار الرياض بالنجوم كقول البحتري :
بكت السماء بها رذاذ دموعها |
فغدت تبسّم عن نجوم سماء |
ثم تشبه النجوم بالنّور :
__________________
(١) خزانة الأدب ص ١٨٢.
(٢) حسن التوسل ص ١١٧ ، نهاية الارب ج ٧ ص ٤٤.
(٣) الخصائص ج ١ ص ٣٠٢.
(٤) المثل السائر ج ١ ص ٤٢١ ، الجامع الكبير ص ٩٧.
(٥) الطراز ج ١ ص ٣٠٩.
(٦) أسرار البلاغة ص ١٨٧.